قطر اكتشفت أكبر حقل للغاز في العالم 1969، إحتياطاتها الإجمالية المؤكدة 880 تريليون قدم3، تمثل 13% من إجمالي الإحتياطات الدولية، حصتها 30% من إجمالي صادرات الغاز، تعتبر أكبر مصدّر للغاز المسال فى العالم، تنفذ منذ سبتمبر 2018، خطة تستكمل 2024 لزيادة القدرة الإنتاجية، إلى 110 ملايين طن سنوياً، بزيادة 43% عن الطاقة الإنتاجية الحالية.
ولكن كلما زادت قدرات قطر المالية والإقتصادية، كلما تعمقت التناقضات بينها وبين باقى دول الخليج، وكذا مع معظم الدول العربية، بسبب محاولتها ترجمة ذلك الى نفوذ وتدخلات فى شئون الدول الأخرى.. كل علاقاتها السياسية، بتوافقاتها وتقاطعاتها وصداماتها مع دول الخليج، ودول الإقليم العربية، ودول الأطراف «تركيا، وايران»، يحكمها النفط والغاز.. السبب الرئيسى للدعم الإيرانى لقطر، الذى وصل الى حد القيام بالدور الرئيسى فى مساندة النظام، عندما كان على وشك السقوط، يرجع الى حرص طهران على التوافق، نتيجة لإشتراكهما في حقل الغاز الممتد تحت المياه الإقليمية للدولتين بالخليج، والمعروف قطريا باسم «حقل القبة الشمالية»، وإيرانيا باسم «حقل فارس الجنوبى»، وهو يعد أكبر حقل غاز فى العالم، بإحتياطيات تقدر بـ50.97 تريليون متر3.
الدعم التركى للنظام القطرى يرجع أيضاً لنفس السبب؛ بعد أقل من 24 ساعة من قيام دول الرباعى العربى بقطع العلاقات مع قطر يونيو 2017، سنّ البرلمان التركي تشريع يجيز نشر القوات التركية على الأراضي القطرية، إستجابة لطلب عاجل من الحكومة، صادق عليه أردوغان بعد ساعات قليلة، لتنطلق الترتيبات على الأرض للتنفيذ، لأن العنصر الحاكم فى العلاقات هو ان إحتياجات تركيا من الغاز الطبيعى تتجاوز 50 مليار متر3 حاليا، تتزايد لتصل الى 72 مليار متر3 بحلول عام 2030، ولذلك فإن علاقاتها الإستراتيجية بالدوحة تتحدد من خلال رؤيتها لمصادر تلبية تلك الإحتياجات، وهو نفس المنظور الخاص بعلاقات التحالف التى تربطها بكلا من روسيا وإيران.
الإهتمام الأمريكى بقطر، ووضعها الرئيسى ضمن أولويات الإستراتيجية الأمريكية بالمنطقة، يرجع ايضا الى أهميتها كدولة منتجة للغاز، دان بروليت نائب وزير الطاقة الأمريكي كشف عن مباحثات مع الدوحة بشأن تزويد أوروبا بالغاز الطبيعي المسال، لأن واشنطن تضغط على ألمانيا أكبر مستهلك للطاقة في أوروبا، وعدد من الدول الأوروبية الأخرى لإستيراد الغاز الأمريكى والقطرى، بدلا من الروسى، وتهدد الشركات الألمانية بعقوبات تتعلق بالتعامل مع خط أنابيب «نورد ستريم 2» الجارى إنشاؤه، والذى سيضاعف الطاقة التصديرية الروسية لألمانيا عبر البلطيق.
أمريكا وبريطانيا حفاظاً على مصالحهما الإقتصادية والسياسية فى قطر، حرصتا على توجيه ثروتها الضخمة لتشكيل هوية جيوسياسية تبعدها عن جيران الإقليم العربى، وتقربها لدول الأطراف، وتأصيل توجهات قد تبدو فى ظاهرها نزوعاً نحو الحداثة والعصرنة، مثل أكاديمية التغيير، ودعاوى حقوق الإنسان، لكنها تخلو من المضمون، لأنها تقترن بسياسات عدوانية هدامة، تحولت معها الى جارٍ مارق، يستهدف زعزعة أسس الدولة الوطنية بالإقليم، وقلب أنظمة الحكم، وخلق حالة من الفوضى، تسمح بالتدخل الخارجى، هذا النموذج نجح تنفيذه بالعراق وسوريا واليمن وليبيا، وفشل بمصر.
خطوط الغاز غبر سوريا
الجغرافيا فرضت على قطر وإيران المشاركة فى أكبر حقل غاز بالعالم، ولكن جنون الغاز دفع كلا منهما لتصدير حصته للخارج بشكل مختلف.. سوريا هى المعبر الوحيد لمشروع خط أنابيب الغاز الذى يستهدف تصدير الغاز القطرى إلى أوروبا؛ والذى عرضت قطر تشييده بدعم أمريكى عام 2000، بتكلفة 10 مليارات دولار، يمتد 1500 كم عبر السعودية والأردن وسوريا وتركيا.. سوريا الأسد رفضت الموافقة على مد الخط منذ عام 2009، فقررت الدول الثلاث العمل على إسقاط النظام السورى.
سوريا أيضاً هى المعبر الوحيد لخط الغاز الإيرانى «خط الأنابيب الإسلامى»، الذي خططت إيران لتنفيذه منذ 2010، ليقوم بنقل الغاز من ميناء عسلوية المطل على الخليج، ويمتد بطول 2000 كم، عبر العراق وسوريا ولبنان، يشحن 20 مليار متر3 حتى ساحل البحر المتوسط، ومنه لأوروبا إما عن طريق خط أنابيب بحرى لتركيا، أو عبر ناقلات الغاز بعد إسالته.. هذا الخط كان كفيلاً بجعل إيران أكبر مصدر للغاز فى العالم.. مصلحة إيران فرضت عليها الحفاظ على إستمرار نظام حكم الأسد، والحيلولة دون سقوطه.
الغاز من حقل واحد، وملاكه شركاء، لكن مصالحهما تصادمت على الساحة السورية؛ قطر وحلفائها والتنظيمات الإرهابية التى تدعمها، وإيران والميليشيات الشيعية التابعة لها، لينتهى الصدام بتدمير الدولة السورية، وسقوط أكثر من 350 الف قتيل، منهم 20 الف طفل وامرأة، وقرابة 12 مليون نازح بالداخل والخارج، وبعد أن قامت الأطراف المتصارعة بهدم كل منهما للآخر سقط المشروعين القطرى والإيرانى، وتدخلت روسيا عسكريا فى سبتمبر 2015، لتحسم المعركة لصالحها، وتتخلص من إحتمالات منافسة أياً من الغاز القطرى أو الإيرانى، للغاز الروسى فى أوروبا، وتستولى على عقود التنقيب عن الغاز السورى، فى البر، وبالمنطقة الإقتصادية الحرة فى عمق البحر المتوسط، بعد ان اكدت البحوث السيزمية ان الاحتياطى الإستراتيجى من الغاز سيحول سوريا الى ثالث أكبر دولة منتجة بعد روسيا وإيران، مما يفسر بدء موسكو بناء معملين للإسالة.. قطر وإيران خسرتا معركة الغاز.. سوريا تهدمت وتشرد أبنائها.. وروسيا هى الطرف الوحيد المستفيد.. لأنها تدير معركة الغاز، برصانة تضمن لها الخروج مستفيدة من كل الحسابات الخاطئة للاعبين المنتشرين على الساحة.
تدخلات قطر فى ليبيا والجزائر
أطماع قطر فى غاز ليبيا والجزائر يرجع لحرصها على عدم وجود منافس قوى لها، كمصدِّر للغاز للسوق الأوروبى.. «القطرية للغاز» عقدت إتفاق شراكة فى كل مشاريع «توتال» عام 2006، الأخيرة إكتشفت حقل غاز «NC7» العملاق بحوض غدامس، وإشترت حق إمتيازه 2009، ليبيا عرقلت تنفيذ إتفاق الشراكة مع القطرية، باشتراطها عدم دخول شريك ثالث، مما دفع قطر لمشاركة فرنسا فى الإطاحة بنظام القذافى ونشر الفوضى بالبلاد.. بعد سقوط النظام 2011 نجحت فرنسا فى السيطرة على 35% من الغاز الليبى، بالاتفاق مع المجلس الانتقالى، الذى كانت تربطه بالنظام القطرى علاقات وثيقة.. قطر دفعت شركة «جلينكور» للتجارة والتعدين، التى تمتلك نسبة كبيرة من أسهمها، للاستحواذ على الغاز الليبى، لكنها فشلت، الى ان أصبح فايز السراج رئيساً لحكومة الوفاق أواخر 2015، فمنحها الحقوق الحصرية لتسويق إنتاج حقلى «السرير ومسلة» اللذين يشكلان 20% من الغاز الليبى، حتى استولت عليها شركتا «بى. بى ورويال داتش شل» نهاية 2018.
ومن المؤسف أن يتم إغتيال شكرى غانم، وزير النفط الليبى، الذى وقع اتفاق 2009 فى النمسا أبريل 2012، وإغتيال كريستوفر مارجيرى، مدير توتال، وشريكه فى توقيع الاتفاق، فى العاصمة الروسية موسكو أكتوبر 2014، فى عمليتى مخابرات ناجحتين، انتهتا بتصفيتهما جسديا، لتعكسا مدى شراسة «حرب الغاز» التى تتعرض لها المنطقة.. أما فى الجزائر، وخلال الموجة الثانية من الخريف العربى التى تمر بها الجزائر والسودان حاليا، تقوم قطر بتنفيذ مخطط الفوضى، بتقديم الدعم المباشر لـ«جبهة الإنقاذ» المتعاونة معها بالجزائر، التى نجحت فى ركوب موجة الاضطرابات، وتأجيج الشارع الجزائرى ضد بوتفليقة، حتى انتهت باستقالته، ولازالت تحرض على مزيد من الإضطرابات بدعوى إسقاط كامل القيادات المنتمية للنظام السابق، والتى تستهدف فى النهاية إسقاط الجيش، الذى تنتمى كافة قياداته بالطبع للنظام السابق، مما يفتح الباب لسقوط الدولة، والفوضى، كبداية لقفز عناصر الإخوان على السلطة.. هو نفس التكتيك التقليدى الذى تتبعه الجماعة الإرهابية فى كل دول المنطقة.
مشروع ربط شبكة الغاز الخليجية بمصر
من الملفت انه بعد تأزم علاقات قطر مع دول الرباعى العربى، أكدت أنها لن تغلق خط أنابيب «دولفين» الذى يمد دولة الإمارات العربية بالغاز القطرى، ولن تستخدمه كأداة للضغط، وبالفعل بمجرد حدوث عطل بخط «دولفين» منتصف ابريل 2019، سارعت شركة «قطر للبترول» بشحن المواد اللازمة لأعمال الإصلاح، وعوضت نقص إمدادات الغاز عن طريق شحن الغاز المسال إلى الإمارات.. مما يعكس حرص قطر على الإحتفاظ بحصتها من الصادرات للأسواق الخليجية، لأنها تدرك ان الإمارات يمكنها توفير إحتياجاتها من مصادر بديلة، كما ان إيقاف الشحن يعطى مبرراً قانونياً للإمارات لإنهاء العقد الموقع مع الدوحة، والذى يقضى بإلتزامها بتزويد الإمارات بالغاز حتى 2032، وتلك تعتبر خسارة كبرى لقطر، فى ضوء ماكشف عنه وزيرا الطاقة فى الإمارات والسعودية، من انه يجرى حالياً دراسة مد شبكة غاز خليجية مشتركة، تضم الإمارات والسعودية وسلطنة عمان، تليها في مرحلة لاحقة الكويت والبحرين، تمهيداً لربطها مع مصر والأردن، وربما العراق.. محاولة جادة للتخلص من إحتمالات الخضوع للضغط، وهو مايعزز ثقل مصر كمركز للغاز بالمنطقة.