أثارت تصريحات وزير الداخلية بشأن عودة إدارات متابعة النشاط المتطرف السياسى والدينى الى جهاز “الأمن الوطنى-مباحث امن الدولة سابقاً” ردود فعل غاضبة من عديد من الإتجاهات السياسية ، وبالطبع فإن معارضة تيار الإسلام السياسى لمثل هذا الإجراء يمكن تفهم مبرراته ، اما معارضة بعض المنتمين للتيار المدنى فهى مبنية على خليط من المثالية السياسية ، وسوء الفهم ، ونقص المعلومات .. هذا الخليط الذى انتهى بهم الى الوقوف داعمين لأهداف هدامة يتبناها أصحاب الإتجاه المضاد ، وهو مادعانى لمحاولة تناول ذلك الموضوع بكل الموضوعية والتجرد.
مقدمة حول مخاطر التطرف السياسى والدينى
ادى التطرف السياسى فى اوروبا الى إخضاع المانيا للحكم النازى لهتلر ، كما اخضع ايطاليا لحكم فاشية موسولينى ، اللذين انتهيا بكارثة الحرب العالمية الثانية بكل خسائرها البشرية التى قُدّرت بأكثر من 60 مليون قتيل مثلوا في ذلك الوقت أكثر من 2.5% من إجمالي تعداد السكان فى العالم ، اما التطرف الدينى فقد انتهى بكارثة 11 سبتمبر 2001 ، وماأعقبها من حروب دمار على العراق وافغانستان والصومال ولاتزال آثارها ممتدة حتى الآن بالشرق الوسط مسيلة لدماء الأبرياء .
تلك امثلة حديثة لآثار وإنعكاسات التطرف السياسى والدينى للتأكيد على انه يفرض ضرورة وجود متابعة قوية لمنتهجيه ، ومواجهة حاسمة ومبكرة لكل مكوناته.
الإشكاليات التى تثيرها متابعة التطرف
ترجع خطورة التطرف – خاصة الدينى – الى تمتعه ببعض الخصائص التى تضاعف من تأثيراته السلبية والمدمرة على المجتمعات الوطنية والعالم أهمها:
1- انه ظاهرة عالمية تمتد لتغطى كافة دول العالم تقريبا ، حتى تلك التى نجحت فى تحقيق قدر عال من الإشباع لمواطنيها.
2- انه يؤدى فى الكثير من الحالات الى تشكيل تنظيمات ذات طابع دولى وبصورة تلقائية دون ان تكون هناك هيكلية تنظيمية تربط فيما بينها .. تنظيم “القاعدة” نموذج لذلك فهو ليس تنظيم موحد يخضع لقيادة تنظيمية واحدة ، بقدر ماهو بالأساس فكر يجمعهم ومحاكاة لآليات عمل ينتهجونها.
3- انه لايعرف حداً للعنف – على خلاف ماتفرضه الأديان من سماحة – عملية برجى التجارة عام 2001 بلغ ضحاياها قرابة 3000 مدنى ، وعمليات التعذيب التى يمارسها المتطرفين عادة ضد معارضيهم لم تعرفها أشد النظم عسفاً فى معاملة البشر.
4- ان المحاربين من اصحاب المذاهب المتطرفة هم الوحيدون الذين توجد بين صفوفهم عناصر “إنتحارية” .. هناك حدود للتضحية وللشجاعة لدى أمهر وأشرس المحاربون عبر العصور وهذه الحدود تتوقف عند قدسية الحياة ، لكن المتطرف دينياً يضحى بحياته ذاتها من اجل تحقيق هدف بالغ التواضع من الناحية الموضوعية ، وبالتالى لا يتسنى له العيش حتى يتاكد من ان فعلته قد انتهت الى فشل أسوة بكافة التجارب من هذا النوع عبر التاريخ..انهم لايقرأون التاريخ.
5- ان المتطرفين رغم اتفاقهم فى المبادىء والأهداف العامة الا انهم قد يختلفون من حيث درجة الحدة فى التطرف والسرعة فى السعى لتحقيق أهدافهم .. هذه التعددية يتم توظيفها سياسياً فى توزيع الأدوار ، وكذا لدعم الموقف التفاوضى ، او لتشتيت مواقف الخصوم ، وايجاد بدائل تستكمل الرسالة عند سقوط أحد اطرافهم فى الصراع ، دور حزب النور السلفى والسلفيين بعد سقوط الإخوان يؤكد تلك الحقائق.
***
أين “الأمن الوطنى” من تلك الحقائق؟!
اولاً:
ان الهدف الرئيسى الذى يسعى الإخوان لتحقيقه هو إسقاط الدولة عن طريق تفكيك مؤسساتها السيادية.. الأمن الوطنى “مباحث أمن الدولة سابقاً” تم إقتحام كافة مقراته خلال ثورة يناير 2011 ، ملفات الجهاز تم إحراق بعضها بمعرفة القيادات تجنباً لوقوعها فى ايدى المقتحمين الذين قاموا بإحراق باقى الأرشيف .. تم هيكلة الجهاز بعد الثورة وفق معايير فرضها تيار الإسلام السياسى فتم حل الإدارات المختصة بمتابعة النشاط المتطرف السياسى والدينى ، وإنهاء خدمة الضباط والقيادات المعنية بهذا النشاط .. ثم نقل تبعية الجهاز الى رئاسة الجمهورية .. وتعيين نائب لرئيسه بمعرفة خيرت الشاطر لتحقيق الإختراق الكامل للجهاز وأنشطته..وكل ذلك ينبغى ان يخضع لمساءلة ومحاكمة سياسية خلال المرحلة المقبلة..لاينبغى التوقف عند حدود الجرائم الجنائية بل نتجاوزه للجرائم السياسية وكذا فى حق الأمن القومى للوطن.
ثانياً :
وفى غياب المتابعة الأمنية بدأ الإخوان يحررون المتطرفين من كافة القيود ..
* تم الإفراج بقرارات رئاسية عن كافة المعتقلين والمسجونين فى قضايا تطرف بمن فيهم القتلة خلافاً للقواعد المعمول بها.
* تم السماح بعودة كافة العناصر المتطرفة من المصريين المدرجين على القوائم لخطورتهم دون إحاطة جهات الأمن او تحويلهم للتحقيق.
* تم فتح مختلف المنافذ لدخول العناصر المتطرفة الأجنبية على النحو الذى اصبحت معه سيناء وفقاً لتقارير المخابرات الألمانية “أكثر جذباً للإرهابيين – كميدان تدريب ونشاط – من وزيرستان”.
وتثير هذه الظاهرة قلق أجهزة المخابرات الأوروبية إزاء ماقامت به من رصد إتجاه المتطرفين الفرنسيين والألمان وعدد من الجنسيات الأوروبية الأخرى للتدريب والعمل فى سيناء لإكتساب خبرة العمل ضد حكوماتهم .. وهكذا اصبحت سيناء واجزاء من الصحراء الغربية تحت السيطرة الكاملة لجماعات التطرف الدينى والسياسى من مصر ومختلف دول العالم.
ثالثاً :
ولعل التعرف على آليات التعامل مع التطرف السياسى والدينى فى الدول الديمقراطية يمثل رداً على من يدعون ان ماتم من إجراءات هدم وتصفية لـ”مباحث امن الدولة” كان إجراء لازماً فى إطار التطور السياسى للدولة المصرية بعد الثورة ، ان تتبع النشاط المتطرف السياسى والدينى فى كافة الدول الديمقراطية فى العالم يتم بمعرفة جهازى أمن وليس جهاز واحد .
الجهاز الاول .. هو جهاز الأمن الداخلى “المقابل للأمن الوطنى فى مصر” الذى يتولى رصد أنشطة العناصر والمجموعات المتطرفة – علاقاتها مع العناصر والجماعات والأحزاب الأخرى بالدولة – مصادر تمويلها – مصادر تسليحها – المقرات واماكن التواجد الرئيسية والبديلة – الخطط وبرامج العمل والنشاط.
الجهاز الثانى .. هو جهاز الأمن الخارجى “يقابل المخابرات العامة فى مصر” ويتولى رصد مصادر الدعم والتمويل الخارجية – مسالك تهريب الأموال والأسلحة وتسلل العناصر من الخارج للداخل مع رصد كمياتها وأعدادها – علاقاتها الخارجية – انشطتها وتنقلاتها ..الخ
وبالإضافة الى هذين المصدرين فقد قامت دول الإتحاد الأوروبى بتوحيد قواعد بيانات دول الإتحاد المتعلقة بمكافحة الإرهاب ، كما تقوم بالتعاون فى مجال تبادل المعلومات عن الإرهاب مع مختلف أجهزة المخابرات فى العالم.
رابعاً :
ماسبق يتعلق بآليات توفير الدول الديمقراطية لمعلوماتها عن التطرف والإرهاب الذى يمس أمنها ، اما عن كيفية مواجهته فهو يتم وفق منظومة متكاملة يديرها جهاز الأمن الداخلى.. إسرائيل على سبيل المثال .. بعد ان تحدد عنصر الإرهاب المطلوب التعامل معه (من وجهة نظر مصالحها الوطنية) تكلف الأمن الخارجى باختراق الدائرة المحيطة به لزرع شريحة الكترونية فى وسيلة الإنتقال التى يعتمد عليها عادة – سيارة خاصة او دراجة بخارية …- وعند اللحظة المحددة للتنفيذ يتم وقف شبكات إتصال المحمول للحظات حتى لاتتداخل اشاراتها مع الإشارة التى تبثها الشريحة الإلكترونية ، وذلك فى اللحظة التى تكون فيها طائرة مقاتلة عادية ، او غالبا بدون طيار توجه قذيفتها الى حيث موضع الشريحة استرشاداً بإشارتها ، فيتم التخلص من الهدف .. عنف مستحق ضد إرهابيين لتوفير دماء الأبرياء.
أين نحن من تلك المنظومة ؟! ابناؤنا يسقطون يومياً ضحايا الإرهابيين فى سيناء وحتى داخل المدن لأن الإرهاب لاتتم مواجهته بالجيوش..كل مانفعله هو ان نرسل غيرهم ليحلوا محلهم وليتحولوا الى أهداف جديدة!! حسبنا الله ونعم الوكيل.
***
فى ضوء ماتقدم – ومع التذكير بأن لامصلحة لى فى تناول الموضوع سوى الحرص على أمن الوطن – ينبغى على الجميع تفهم الأسباب التى ادت الى إعادة بعض الإدارات المتخصصة فى متابعة النشاط المتطرف السياسى والدينى بجهاز الأمن الوطنى ، وإعادة بعض الكوادر المؤهلة للعمل بعد ان تم حل هذه الإدارات واستبعاد كوادرها بعد الثورة لأسباب لاعلاقة لها بمصالح الوطن وأمنه وانما كجزء من صفقة عقدها الإخوان مع المجلس العسكرى آنذاك.. وعلى من لازال متردداً فى الإقتناع ان يتذكر عمليات الإغتيال التى تعرض لها كل من النقيب محمد ابوشقره والعميد محمد هانى خلال شهر يونية 2013 بمجرد وصولهما سيناء لمتابعة الإرهابيين المتورطين فى اختطاف الجنود السبعة وقبل ان يشرعا فى العمل ، بما يعكس إصرار الإرهابيون على استبعاد اى نشاط مضاد لهم فى سيناء.
الأمن القومى لمصر يتطلب عودة “الأمن الوطنى” بكل قوة وبكامل إداراته وتشكيلاته ومتخصصيه وصلاحياته ، مع تنسيقه الكامل مع المخابرات العامة لإستكمال الدائرة الخارجية للمتابعة ، أما من تجاوز القانون ، او مارس التعذيب ، او تورط فى استغلال النفوذ ، فالقانون كفيل بالقصاص منه ، وتحذير غيره من انتهاج نفس الآليات.
ان المتابعة الأمنية للأنشطة المتطرفة تستند الى اساليب علمية ، وأدوات تكنولوجية ، ومهارات مهنية .. أما انتهاج اسلوب القوة الغاشمة والصدر المفتوح فتنتهى عادة بكوارث وطنية لاتحتملها الأوضاع بالغة الحساسية السائدة حالياً فى مصر.