منذ أن دخلت «حكومة الوفاق الوطنى» طرابلس، بدأت السباق على الشرعية مع حكومة الثنى وبرلمان طبرق وجيشه الوطنى، وبات واضحاً أن معركة سرت ضد «داعش» هى الساحة التى ستحسم هذا السباق، الغرب قلق من تدهور الأوضاع، قدَّر ان خوض المعركة ينبغى ألا يتجاوز الربع الأول من 2016، فشل «الوفاق» فى الحصول على تأييد البرلمان، فرض التأجيل للنصف الثانى، الأطراف الليبية المتصارعة تسابقت نحو سرت، كسباً للتأييد الدولى، وتأكيداً لشرعيتها.
حفتر بادر بإعلان “معركة سرت الكبرى”، دفع بقواته غرباً، عبرت المثلث النفطى، وهى تراهن على قوات حرس المنشآت النفطية بقيادة «إبراهيم الجضران»، لكن «الوفاق» نجحت فى إستقطابه، بعد ان وعدته بالإحتفاظ بالسيطرة على المناطق التابعة له بالهلال النفطي، فانقلب على حفتر، كما تمكنت من ضم كتائب ميليشيات مصراتة، وعلى رأسها «المجلس العسكرى»، ماسمح لها بشن عملية «البنيان المرصوص»، وفرض حظر على أى عمليات عسكرية بالمنطقة دون التنسيق معها، ما قطع الطريق على حفتر، وإضطره للتوقف عند اجدابيا ومرادة 200 كيلومتر جنوب شرق سرت لأن تقدمه يعنى الصدام.. إجهاض تحرك حفتر جزء من خطة حصاره؛ البرغثى وزير الدفاع زار بنغازى، التقى بعض القيادات، وعقد مؤتمراً صحفيا ليعلن إنشقاق «قوة المهام الخاصة بجهاز مكافحة الإرهاب»، وكتيبة «الإسناد لجهاز المخابرات» ببنغازي عن قوات حفتر، وإنضمامهما لقوات «الوفاق»، ما يعكس نجاحه فى إستغلال عدم إحكام حفتر سيطرته على المنطقة حتى الآن، فى محاولة إنشاء قوة عسكرية موالية بالمنطقة الشرقية، تُكمِل الحصار، وتقضى على حفتر نهائيا.. حكومة طبرق أعلنت حل الكتيبتين، وإعتبرتهما “ميليشيات إرهابية”، لكن ذلك لا يغير الواقع على الأرض.. حفتر التزم موقف الترقب، مراهناً على غرق الميليشيات بمستنقعات سرت، واستنزاف قوتها، عل ذلك يسهل مهمته فيما بعد.
«داعش» بادرت بالتمدد غرباً بمناطق بوقرين والسدادة وابونجيم، لإجهاض العملية، وإرباك الحشود، لكن ميليشيات مصراتة، التى تضم قرابة 2000 عنصر إستردتها سريعاً، وهاجمت سرت من الغرب والجنوب، احتلت محطة الطاقة، التي تزود سرت بالكهرباء، سيطرت على قاعدة القرضابية ومعسكر كتيبة الساعدي جنوب غرب المدينة، لمنع وصول الدعم الجوى، وحررت ميناء سرت، بعمليات انزال بحرى، مستغلة أن تواجد «داعش» به كان رمزياً، ولأن السيطرة عليه تمكنها من إحكام حصار المدينة، ومنع وصول التعزيزات والدعم عن طريق البحر، وقطع طريق الإنسحاب بحراً بعد رصد تجهيزها لمجموعة قوارب مطاطيه.. قوات حرس المنشآت هاجمت من الشرق، نجحت فى إستعادة منطقتي بن جواد والنوفلية، على بعد 160 و127 كم من سرت، وتقدمت للإطباق على المدينة، الضواحى الغربية والجنوبية تم تحريرها، والسيطرة على معسكر أبو مريم ومعظم مباني مركز “واجادوجو” للمؤتمرات، مقر إدارة «داعش»، التى أجبرت على التقهقر للجامعة ومركز المدينة.
سرعة تقدم الميليشبات بسرت أكد حصولها على دعم خارجى كبير، يتجاوز الدعم التقنى والمخابراتى، نفى «الوفاق» حاجتها لقصف جوى غربى، تم بتوصية إستهدفت تجنب تأثيرات ذلك السلبية على شعبيتها لدى الرأى العام.. الناطق الرسمى للقوات إعترف بوجود 25 مستشار للتدريب، وبوصول طائرات قطرية تحمل الدعم، وإن إدعى أنه يتعلق بمساعدات طبية ولوجستية لمستشفيات مصراتة، صحيفة «لوموند» أشارت لوجود قوات خاصة من بريطانيا والولايات المتحدة وفرنسا وإيطاليا، وكوبلر أشار الى أن قوات أمريكية وفرنسية ساهمت فى هجوم سرت، ووزير الدفاع الفرنسى أكد ذلك.
المكاسب التى حققتها «الوفاق» فى سرت أزعجت حكومة الثنى، والبرلمان، والجيش الوطنى، لأن إنتصار ميليشيات مصراتة سيحولها لقوة عسكرية، تفرض شروطها فى المشاركة السياسية داخل مؤسسات الدولة، وعلى رأسها المؤسسة العسكرية، كما سينعكس تأثيرها على العلاقات الخارجية، خاصة تجاه داعميها الرئيسيين وأبرزهم تركيا وقطر، فضلاً عما يسببه صعودها من خلل فى التوازن القبلى، بالغ الأهمية فى الدولة الليبية، مما يفسر حالة القلق التى تنتاب القبائل حالياً.. ناهيك عن أن المكاسب قد تفتح شهية «الوفاق» للتحرك لمواجهة حفتر، وإسترداد المناطق الإقتصادية التى يسيطر عليها بالهلال النفطى والمنطقة الشرقية، مايهدد بمعركة ضارية بين الشرق والغرب الليبيين، خاصة فى ضوء حث الصادق الغريانى مفتي ليبيا للمقاتلين، بالتقدم نحو بنغازي «لحسم المعركة ضد قوات عملية الكرامة؛ لكونها المعركة التي ستحدد مصير ليبيا»، وبالفعل إستجابت «سرايا الدفاع عن بنغازي» الموالية له، وانتزعت الحي الصناعي جنوب إجدابيا من الجيش.. مايفسر إعلان البرلمان للنفير العام، وتعيين الناظورى رئيس الأركان حاكماً عسكرياً للمنطقة الشرقية!.
***
تحرير سرت لايعنى القضاء على داعش، 95% من أهالي المدينة تمكنوا من النزوح، رغم محاولة «داعش» الإيحاء بأنها تسعى لمنعهم، عملية النزوح من سرت جزء من خطة «داعش» لإعادة التموضع فى الداخل الليبى، وإعادة هيكلة التنظيم، ومراجعة استراتيجيته، لتتخلى عن فكرة الإمساك بالأرض، التى تيسر عملية إستهدافها، وتعود للإعتماد على البؤر والخلايا التى تعمل فى ظل بيئة تعمل على كسبها، لتوفر لها الحاضنة المناسبة، عناصر داعش وخلاياها إندست بين النازحين، واتجهت لإعادة التوطين كخلايا سرية نشطة، بمناطق أخرى، ولعل ذلك يفسر ضعف المقاومة فى سرت، خلافاً للمعتاد فى مواجهتها للقوات المهاجمة، الجفرة فى الوسط إستقبلت أعداداً منهم، والجنوب بصحرائه الواسعة هو الملاذ الأخير، وقد نجحت بالفعل فى ذرع بؤر قوية فى طرابلس العاصمة، وترهونة وزليتن والزاوية وصرمان وغريان وسبها وصبراتة، التى ربما كانت الوجهة التالية لميليشيات «الوفاق» بعد سرت، حيث انها لاتبعد سوى 70 كم عن العاصمة، والغارة الأمريكية التى قتلت 50 عنصر داعشى تونسى فبراير الماضى أكدت كثافة وجودها بها.
الموقف فى ليبيا يشهد تغيرات إستراتيجية بالغة الأهمية، تفرض القراءة الصحيحة للمشهد، الحفاظ على الجيش الوطنى، يتمشى ومصالح القوى الإقليمية الرئيسية، خاصة مصر والسعودية والإمارات والأردن، وهو ماتتفهمه بعض القوى الدولية كروسيا وفرنسا، وتبدى إستعداداً لتقبل وجود حفتر، لكن الدعم المقدم له لايعادل الدعم التركى والقطرى المستمر للميليشيات والإخوان، بالطائرات، أو براً عن طريق السودان، ولايتناسب مع ماتفرضه الإحتياجات الإستراتيجية للموقف، لذلك لم يتمكن حتى الآن من تطهير كامل المنطقة الشرقية، ولم يحكم سيطرته عليها، أو يؤمِّن مراكز الثروة الإقتصادية التى يسيطر عليها، حتى يصبح قوة لايمكن تجاهلها فى أية تسويات سياسية مقبلة؟.. فهل نعيد تقدير الموقف، ونراجع مدى كفاية الدعم من عدمه، أم ننتظر حتى يتمكنوا من تصفية الجيش الوطنى، ويصبح للإخوان والميليشيات دولة على حدودنا الغربية؟!.