جمال طه يفتح ملف :
ليبيا.. وأمن مصر القومى «1»
ملف الغاز الذى تناولته على مدى أربعة أسابيع أثار ردود فعل بالغة الإيجابية.. أكدت أن القارئ تجتذبه الملفات الشاملة، التى تغطى الموضوعات المتعلقة بالأمن القومى، ما شجعنى على فتح «الملف الليبى»، لأنه يتعلق بالباحة الخلفية لأمننا القومى، التى أضحت بيئة حاضنة للإرهاب.. خريطته الراهنة، ردود الفعل الدولية والإقليمية، وآليات تعامل مصر مع ملفى توحيد الجيش وتسوية الأزمة السياسية.. مجموعة ملفات فرعية، لكنها جديرة بالتناول تباعاً.
الجيش الوطنى الليبى بقيادة خليفة حفتر نجح فى طرد الجماعات المسلحة من بنغازى، واسترد منطقة «الهلال النفطى»، وموانئ تصديره.. كتائب مصراتة «البنيان المرصوص»، المتعاونة مع فايز السراج، حررت سرت، بدعم جوى ولوجيستى أمريكى.. التنظيمات والجماعات المسلحة تراجعت لمنطقة الجفرة، التى تعتبر صُرّة ليبيا، لأنها منطقة مركزية تتصل بكل أنحاء الدولة، ثم انتشروا بصحراء الجنوب، حيث تمركزت «القوة الثالثة»، التابعة لحكومة الوفاق، التى تشكل قوات الدروع المرتبطة بالإخوان، عمودها الفقرى، قيادات وعناصر «داعش» المنسحبة من سرت، وتلك التى وصلت من سوريا والعراق، انتشرت جنوباً حتى سبها.. الجماعات الإرهابية اتجهت للإقامة بمناطق المشاريع الزراعية التى كان ينفذها معمر القذافى، على طرق ومدقات المنطقة الجنوبية، خاصة تلك التى تربط سرت بالشرق، وبالجنوب الغربى وصولاً للحدود الجزائرية عبر الجفرة.. الجيش تمكن من استرداد الجنوب منتصف 2017، لكنه لم يتمكن من توفير تشكيلات مسلحة تفرض هيمنتها على كامل مناطقه، بسبب استعداداته لتطهير درنة، وحرصه على تأمين بنغازى، ومنطقة الهلال النفطى، ما أغرى الميليشيات المسلحة، بما فيها الجماعات القادمة من الدول المجاورة، لمحاولة السيطرة على المنطقة، مستغلة الخلافات بين قبائل «التبو»، الموالية لحكومة السراج، و«أولاد سليمان»، المتعاطفة مع حكومة طبرق، وهى الخلافات التى تفجرت 2012 بسبب اغتيال الأولى لأحد قادة الثانية.
يوجد فى ليبيا حالياً العديد من التنظيمات الإرهابية التى عاثت عنفاً وفساداً فى المدن والبلدات الليبية، وهددت الحدود التونسية، ودول الجوار.. ما يفرض تناولها:
«داعش» خرجت من سرت باتفاقات تارة، وتوافقات تارة أخرى، إلا ما رحم ربى، لذلك لم يتعرض مقاتلوها للتصفية، وانتشارهم لم يكن عشوائياً، ذابوا فى الصحراء، وخدعوا الجميع.. أجهزة مخابرات دولية ابتلعت الطعم فقدرت عدد من تبقى منهم بـ500 مقاتل، حتى خرج أحدث تقارير معهد واشنطن لدراسات الشرق الأدنى ليكشف عن 5000، منهم 1500 تونسى، 300 مغربى، 130 جزائرياً، 112 مصرياً، 100 سودانى، 30 سنغالياً، 66 فرنسياً، 36 بريطانياً، 10 أمريكيين، 3 إسبانيين، بالإضافة إلى 1000 امرأة مقاتلة بينهن 300 تونسية، المصادر غير الرسمية تقدر ارتفاع عدد عناصر التنظيم إلى 8000 مقاتل نتيجة للهجرة من سوريا والعراق، المجاهدون الأفارقة وحدهم بالتنظيم نحو 6000 مقاتل، معظمهم قياديون، عمليات الهجرة تمت عبر ثلاثة مسارات؛ ميناء ومطار مصراتة، مطار معيتيقة، أو إلى تونس ومنها لصبراتة، المسارات الثلاثة انخفضت معدلات التدفق منها، نتيجة للتشديدات الأمنية التى فرضها الجيش الوطنى.. تجميع «داعش» صفوفه بالجنوب يستهدف الحيلولة دون بسط الجيش لنفوذه بالمنطقة، والحيلولة دون استقرار الأوضاع بالبلاد، ما يفسر توسيع السلطات الليبية لدائرة الاشتباه، ما أوقع المئات من الدواعش، وكشف الدفين من الأسرار، وأبرزها تفاصيل مذبحة المسيحيين المصريين وأماكن دفنهم.
«القاعدة فى بلاد المغرب» أنشأت تنظيم «أنصار الإسلام والمسلمين»، يمتد من غانا إلى مصر، مروراً بتشاد، والحدود السودانية مع مصر وليبيا، التنظيم لم يقتصر على «القاعدة»، لكنه ضم تنظيم «المرابطون»، الذى أسسه هشام عشماوى، وعدد من الجماعات التكفيرية الليبية، هذا التنظيم هو المسئول عن عمليات الصحراء الغربية والواحات، والظهير الصحراوى لوادى النيل.. حاول أن يؤسس قواعد لنشاطه فيها، نفذ عملية دير الأنبا صموئيل مايو 2017، أعقبتها «اشتباكات الواحات» أكتوبر 2017، ويعتبر هو التحدى الأول خلال المرحلة المقبلة، لأنه يسعى لوراثة «داعش»، واستثمار أخطائها «على نحو ما حدث باستهدافها المدنيين بمسجد الروضة ببئر العبد»، ومحاولة استقطاب فلول الإخوان والسلفيين والتكفيريين بسيناء، وذلك قبل أن تدهم الجميع عاصفة «سيناء 2018».
تنظيما «مجلس شورى ثوار بنغازى»، الموالى للقاعدة، و«سرايا الدفاع عن بنغازى» جرى تصنيفهما ضمن لائحة الجماعات الإرهابية المرتبطة بقطر، ينبثقان عن جماعة «أنصار الشريعة» الإرهابية، التى هاجمت البعثة الدبلوماسية الأمريكية ببنغازى 2012، اتجها للعمل على نشر الفوضى فى الجنوب، بعد أن تم طردهما من شرق ليبيا.. فلول قوات «حرس المنشآت النفطية» المنهزمة تشتتت بعد أن فقدت تأييد قبائل المنطقة، التى انحازت للدولة وللجيش الوطنى.. الميليشيات التشادية المعارضة المدعومة من قطر تشكل قوة مهمة بالجنوب الليبى، وهى تسعى لإنشاء كيان سياسى خاص بها، يستحوذ على حقول النفط الغنية جنوب ليبيا، مستفيدةً من حالة الفوضى بالمنطقة، كما تستهدف السيطرة على محاور طرق التهريب عبر الجنوب، التى تدر بدورها عائدات معتبرة، قيام تشاد بقطع العلاقات مع الدوحة يعكس خطورة ما، تكشف عن دعم قطر لهذه الميليشيات.. المجموعات الإرهابية النشطة فى الجنوب الليبى تضم أيضاً خلايا من المصريين، ينتمون لـ«أنصار بيت المقدس»، ممن فروا من سيناء خلال العامين الماضيين، وخلايا «داعشية» من التونسيين من جبل الشعانبى، وجماعة بوكو حرام النيجيرية، وجميعها تحصل على الدعم القطرى، ما يفسر إدراج بعض قادتها ضمن لوائح الإرهاب التى أصدرتها الرباعية المضادة لإرهاب قطر.
الإرهاب فى ليبيا يتسم بصفات بالغة الخصوصية؛ أبرزها تشعب ارتباطاته الإقليمية، الحدود رخوة مع جيرانها «مصر، تشاد، النيجر، الجزائر، تونس، والسودان»، منذ فوضى 2011، ما سمح بعبور المتطوعين، وتناقل الدعم، وامتداد العمليات، والأخطر أن الخلافات والتنافسات بين التنظيمات الإرهابية التى كانت أحد أسباب سقوطها فى سوريا، ليس لها وجود هنا، بل على العكس يسودها التعاون، حتى بين «داعش» و«القاعدة»، الصحراء التى تشكل معظم مساحة الدولة العملاقة «1.8 مليون كم2»، يتحكم قطاعها الجنوبى فى كافة طرق وممرات العبور الإقليمية، وتوفر عمقاً استراتيجياً، وميداناً للمناورة، وغطاءً للتخفى والهروب، مصر ليست المتضرر الوحيد، لكنها الأكثر تضرراً، بحكم امتداد الحدود المشتركة لـ1100 كم، بعدها تونس والجزائر وتشاد، وحتى أوروبا، التى اتسعت رقعة القواعد الجغرافية لانطلاق المهاجرين إليها، لتشمل مدن الخمس والقرة بوللى وزوارة وغرب الزاوية، بعد أن كانت متمركزة فقط فى صبراتة.
خريطة التنظيمات المسلحة بالجنوب تعكس قدرتها على عرقلة تسوية الأزمة السياسية فى ليبيا، وتعميق الشقاق، والأخطر أنها تهدد بخلق بؤرة إرهابية تؤثر على الاستقرار والأمن بمصر، وتجهض نتائج عملية تطهير سيناء، كما تهدد دول إقليم الساحل والصحراء، ما يفرض تناول تلك المخاطر بالتحليل.
قطر والإخوان والجنوب الليبى «2»
السلطات الفرنسية تحقق مع «ساركوزى» لتلقيه خمسة ملايين يورو من «القذافى» دعماً لحملته الانتخابية 2007، الرئيس الأسبق اعترف بالتورط عسكرياً فى ليبيا، وتدبير فوضى فبراير 2011، للقضاء على جيشها، وأن دور من سماهم بالثوار اقتصر على التقدم بعد عمليات المسح التى أجراها الطيران الفرنسى.. «القذافى» عندما أفلت من ميليشيات مصراتة، ساعد الطيران فى القبض عليه وتخديره، وسلموه للمسلحين ليقتلوه.. الليبيون الذين شاركوا فى الفوضى كانوا قلة، إلى حد يبرر ادعاء رئيس الأركان القطرى بأن مئات الجنود القطريين شاركوا فى العمليات!!، وأن العقيد حمد بن عبدالله بن فطيس المرى، قائد القوات الخاصة القطرية، كان أول من دخل معسكر باب العزيزية، مقر «القذافى» بطرابلس، بعد إسقاطه، بصحبة الإرهابى عبدالحكيم بلحاج.. يدهشنى أن العرب يختارون ويمولون «خنّاقيهم».. فرنسا تراجع نفسها، لكن قطر تستكمل طريق الخيانة.. أيام سوداء، لا ندرى كيف للدهر أن يهضمها.
الاحتياطى النقدى الضخم لدى قطر «340 مليار دولار» منتصف 2017، ولّد طموحاً لا يتناسب ودولة قزمية.. رشحت عبدالرحمن العطية ليخلف عمرو موسى كأمين عام للجامعة العربية 2011، ومحمد بن همام لينافس «بلاتر» كرئيس للفيفا 2011، وحمد الكوارى لينافس على منصب المدير العام لليونيسكو 2017، ودورها كوسيط نشط فى مشاكل وأزمات المنطقة يمتد من دارفور لسوريا.. هذا الطموح شجع المخابرات الأمريكية على توظيف المخابرات القطرية فى تنفيذ عمليات بدول المنطقة، سقوط إخوان مصر 2013 كان مبرراً لإعادة هيكلة الجهاز منتصف 2014، وفق خطة أمريكية تضمنت رفع كفاءته وتطويره وإمداده بعناصر جديدة، والتدريب والإعداد الفنى لقرابة 40 عنصراً بقاعدة «السيلية» العسكرية الأمريكية لمدة 3 أشهر على أيدى خبراء إسرائيليين.. إجراء أضحى لازماً بعد أن أصبح الهدف العمل ضد مصر، الدولة التى أسست المخابرات القطرية 1988.. الخلاف بين أجهزة السلطة فى أمريكا لا يفسد للديمقراطية أى قضية، ففى الوقت الذى تُسَخِّر فيه المخابرات قطر كمركز عمليات متقدم لأنشطتها بالمنطقة، يصف آدم زوبين، نائب الوزير الأمريكى لشئون الإرهاب والمخابرات المالية، قطر بأنها «تفتقر للإرادة السياسية الحقيقية، وللرغبة فى تنفيذ التزاماتها القانونية بمحاربة الإرهاب»!!.
الدعم القطرى وفّر الحياة للتنظيمات الإرهابية بالمنطقة؛ «القاعدة»، «داعش»، «طالبان»، «النصرة»، و«الإخوان»، ومعظمها يعمل حالياً فى الجنوب الليبى.. إخوان ليبيا يعتبرون المرتكز الرئيسى للتحركات القطرية، فهم ينخرطون داخل معظم الميليشيات، ويعتبرون مصدراً للمتطوعين، جناحهم السياسى، حزب «العدالة والبناء»، يعطى أولوية فى علاقاته الخارجية لقطر وتركيا والسودان، لأنهم يدعمون أنشطته وميليشياته.. مراقبة أجهزة المخابرات الدولية لحسابات «داعش» وأنصارها على وسائل التواصل «تويتر» و«فيس بوك»، أكدت أن قطر أكبر حاضنة لحسابات التنظيم فى الدول العربية والإسلامية، «دى فيلت» الألمانية نشرت تحليلاً أكد أن 50% من التغريدات الصادرة عن الحسابات القطرية تحمل خبراً داعماً أو مؤيداً لـ«داعش».. والمثير أنه بعد أن بدأت دول الرباعية حصارها لقطر، أصدرت «داعش» بياناً بعنوان «بيان نصرة إخواننا المسلمين فى قطر» أكدت فيه تضامنها مع الدوحة فيما وصفته بـ«المحنة من دول الكفر»، ما يعكس علاقة الارتباط بين التنظيم وقطر.. الدوحة تقوم بجمع التبرعات المالية لشراء أسلحة للإرهابيين، وتأمين رواتبهم والترويج لأفكارهم، و«التايمز» البريطانية نشرت وثيقة للخارجية القطرية سمتها «وثيقة المرتبات»، تضمنت كشفاً بالمرتبات التى تقوم بصرفها للإخوان وللمرتزقة بليبيا.
بمجرد نجاح الجيش الوطنى فى هزيمة مجلسى شورى «ثوار بنغازى وأجدابيا» و«مجاهدى درنة»، وطردهم فى اتجاه الجنوب، دفعت قطر بعدد من ضباطها لمدينة الجفرة، جمعوا فلول التنظيمين وأنشأوا «سرايا الدفاع عن بنغازى» يونيو ٢٠١٦، وهى الميليشيات التى شاركت فى محاولة احتلال منطقة الهلال النفطى، وفى كافة العمليات التى استهدفت بث الفوضى وإفشال الاستقرار الذى يحاول الجيش الوطنى فرضه بالجنوب.. الجيش عند اقتحامه آخر مواقع «داعش» بحى «اخريبيش»، شمال بنغازى، عثر على أجهزة اتصال تحمل أرقاماً قطرية، وصناديق أسلحة وذخيرة ووثائق تؤكد ورودها من قطر، وبجوارها الصناديق التى تم تهريبها داخلها، تحمل شعار الهلال الأحمر القطرى، لأنها كانت مرسلة باعتبارها مساعدات إنسانية!!.
فى أعقاب الغارات الجوية المصرية على مواقع التنظيمات الإرهابية شرق وجنوب ليبيا مايو 2017، عقدت عناصر من المخابرات القطرية اجتماعاً بمصراتة ضم ممثلين عن الإخوان، والجماعة المقاتلة، و«أنصار بيت المقدس»، وممثلاً للمخابرات التركية، لوضع ما يسمى بـ«بنك الأهداف» المصرية، والتخطيط للتعامل معها.. قطر وضعت خطة لإيجاد دويلة جديدة لـ«داعش» فى الجنوب الليبى، كبديل لتلك التى سقطت فى العراق وسوريا، ما يفسر توسطها فى الخلاف بين قبيلتى التبو والطوارق، لخلق مرتكزات محلية تسمح لها بحرية العمل بالمنطقة.. الجنوب بالنسبة لها يشكل إحدى حلقات محاولاتها حصار مصر، التى بدأت عقب سقوط حكم الإخوان 2013، مستغلة للحدود الممتدة لـ1100 كم، ما ييسر عمليات التهريب والتسلل.. الجنوب زادت أهميته لقطر حتى أضحى رهانها الأخير بعد هزيمة ميليشيات الإخوان فى المواجهة المسلحة بطرابلس وانسحابها من مواقعها منتصف 2017، ثم فقدانها السيطرة على قاعدة «تمنهنت»، جنوب ليبيا، وإقرار «أنصار الشريعة» فى بنغازى بالهزيمة وحل التنظيم.
قطر تعتمد فى أنشطتها جنوب ليبيا على السودان، سواء من خلال تعاون رسمى إبان فترات تدهور علاقات الخرطوم بالقاهرة، أو استغلال ضعف سيطرة السلطة على الأوضاع فى السودان، الدوحة فتحت معسكرات تدريب فى ولايات كردفان وكسلا والبحر الأحمر لاستقبال العناصر الإخوانية الهاربة من مصر، أو القادمة من المشرق العربى، وتدريبهم بمعرفة عناصر تنتمى لـ«القاعدة»، أعضاء حركة «حسم» الإخوانية اعترفوا خلال استجوابهم بتلقى تدريباتهم فى السودان، الصادق المهدى، رئيس الوزراء الأسبق، ورئيس حزب الأمة، اعترف بانتشار الفكر الداعشى بالسودان، حتى إن بعض المساجد فى العاصمة الخرطوم تقوم بنشره، وتروج له، حركة «تمرد» السودانية أكدت أن التنظيم معترف بوجوده كأى حزب، وأن أميره محمد على الجزورى يتحرك بحرية، ويلقى خطب الجمعة فى المساجد، رغم بيعته العلنية لأبوبكر البغدادى، «التجمع العالمى المعارض لنشطاء السودان» كشف أن تنظيم داعش الإرهابى أقام مراكز تجنيد بالسودان لاستقبال وتدريب العناصر الجديدة، سواء السودانية أو القادمة من الخارج.. تشاد قطعت العلاقات مع قطر، والنيجر استدعت سفيرها فى الدوحة، ما يفسر هرولة «تميم» لزيارة مالى ديسمبر 2017، لاحتواء موجة المقاطعة.
قطر وإخوان ليبيا يشكلان قاعدة مثلث الشر الذى يستهدف مصر انطلاقاً من الجنوب الليبى، تركيا تستكمل قمة المثلث، والمؤامرة تدار فى أغلب الحالات من إستنبول، مايفرض الإطلاع على تفاصيل ذلك.
المؤامرة التركية على ليبيا «3»
تركيا لا تعمل فى ليبيا منفردة، التناول المستقل لدور قطر والإخوان فى مقالنا السابق هو مجرد إطار، فرضته حدود المساحة، لكن ثلاثتهم يعملون معاً، تركيا تتولى التخطيط والخدمات اللوجيستية وإيواء القادة، قطر التمويل والدعم، والإخوان عملاؤهم على الساحة.. تلك حقيقة ينبغى تذكرها قبل التعرض للمؤامرة التركية على ليبيا.
تركيا كانت أول من بادر بتعيين سفير بطرابلس بعد سقوط «القذافى»، احتضنت الإخوان والميليشيات المتطرفة، وسعت لإسقاط الدولة، لكنها اضطرت لتعليق رحلات الخطوط التركية إلى طرابلس، بعد افتضاح دورها فى نقل الأسلحة والذخائر للميليشيات، وتهديد سلاح الجو الليبى بإسقاط أى طائرة تركية تحلق فى المجال الجوى، واضطرت فى النهاية إلى إغلاق السفارة 2014.. اتخذت خطاً علنياً مناوئاً لليبيا برفضها الاعتراف بالبرلمان منذ انتخابه، واستمرت قنصليتها بمصراتة فى العمل!!، حتى بعد إغلاق السفارة.. الساحة الليبية بالنسبة لها بدأت كميدان حشد للإرهابيين، لتدريبهم وتأهيلهم قبل دفعهم لسوريا، ومع هزيمة الإرهاب هناك تحولت إلى مركزٍ للاستقبال، وإعادة التوزيع على ميادين جديدة، مصر فى مقدمتها.
السلطات التركية استقبلت قادة الإخوان، والجماعات المتعاونة معها، ووفرت ملاذات آمنة، وتبنت أنشطتهم، وسمحت باستثمار ما نهبوه خلال الثورة من أموال الدولة الليبية فى مشاريع اقتصادية «عبدالحكيم بلحاج، خالد الشريف..»، ما يفضح تبنيها لعمليات غسيل الأموال، خلافاً لقواعد العمل الدولى.. والأخطر ما أكدته وفاة محمد الزهاوى، قائد جماعة «أنصار الشريعة»، بأحد المستشفيات التركية، متأثراً بإصابته فى معارك بنغازى، من تبنيها للتنظيمات التكفيرية، وإيواء وتوفير الرعاية الصحية لعناصرها.
رغم وفرة الأسلحة فى ليبيا، إلا أن عمليات التهريب التركية لا تتوقف، لتضمن تفوق التنظيمات المتعاونة معها، خاصة من حيث التسليح الشخصى، والمواد المستخدمة فى عمليات التفجير، تعدد عمليات الضبط تؤكد كثافة معدلات التهريب؛ جميعها سفن وأطقم تركية، حتى لو حملت أعلاماً أخرى، تنطلق من موانيها، وتستهدف الموانى التى تسيطر عليها الميليشيات فى درنة ومصراتة، والتفاصيل مشينة.. حمولة سفينة اضطرت للتوقف فى اليونان بسبب سوء الأحوال الجوية يناير 2013، أربع حاويات اعترضتها الجمارك المصرية ديسمبر 2013، سفينة دمرتها قوات «حفتر» قبالة سواحل درنة أغسطس 2014، باخرة كورية محملة بحاويات الأسلحة والذخائر اعترضتها السلطات الليبية أمام سواحل مصراتة ديسمبر 2014، وأخيراً سفينة الشحن التركية «أندروميدا» وعلى متنها 29 حاوية محملة بـ410 أطنان من نترات الأمونيوم والمتفجرات التى احتجزتها اليونان بميناء «بيرايوس» يناير 2018، بعد مغادرتها إستانبول تحت إشراف ممثلين للمخابرات التركية والجماعة الليبية المقاتلة، فى طريقها لكتائب الجماعة الإسلامية المتشددة بمصراتة، الحادث تزامن مع عمليات نقل الإرهابيين من تركيا إلى ليبيا، والاستعداد لمعركة الاستيلاء على طرابلس العاصمة، ومحاولة إفساد الانتخابات المقبلة، حال التأكد من انعدام فرصة عودة الإسلام السياسى من خلالها.. البحرية اليونانية، بعد التعاون الاستراتيجى الذى تم تأسيسه مع مصر، أضحت تمارس مراقبة متقدمة على السفن التركية المتجهة إلى ليبيا.. قوة مصر وعلاقاتها أضحت تمثل هاجساً لتركيا، حتى على مقربة كيلومترات قليلة من سواحلها.
تركيا لا تكتفى بمعارك الداخل الليبى، وإنما تحاصرها من الخارج بتحركات نشطة؛ زيارة «أردوغان» للخرطوم ديسمبر 2017 استهدفت الاتفاق على عمليات نقل الإرهابيين من تركيا إلى السودان، تمهيداً لدفعهم إلى جنوب ليبيا، اصطحب معه رئيس الأركان، ولحقه رئيس الأركان القطرى، ليتفقا على التفاصيل اللوجيستية مع رئيس الأركان السودانى، ما يفسر تشغيل تركيا خط نقل جوى وآخر بحرى إلى السودان، وكانت أول دولة تعيد فتح سفارتها بطرابلس يناير 2017، بعد غياب ثلاث سنوات، لتتمكن من متابعة معدلات تنفيذ مخططاتها من داخل الميدان.. «أردوغان» أعقب ذلك بجولة أفريقية شملت السودان، تشاد، وتونس ديسمبر 2017، ثم جولة أخرى للجزائر، موريتانيا، السنغال، ومالى فبراير 2018.. هذه الدول تشكل الطوق المحيط بليبيا، والمؤثر على الاستقرار فيها، ما يعكس مدى أهمية ليبيا لتركيا فى المرحلة الراهنة، باعتبارها ملاذاً آمناً للعناصر الإرهابية التى ارتدت للداخل التركى بعد هزيمتها فى العراق وسوريا، قبل دفعها لمصر ودول الساحل والصحراء، ما قد يفرض استغلال الحدود المشتركة لبعض جيرانها، وربما إزعاج البعض الآخر، وهو ما يوجب الترطيب المسبق للعلاقات السياسية، وضخ استثمارات إضافية تقيد ردود فعلها.
ثلاث قضايا تحظى بأولوية اهتمام تركيا حالياً؛ الأولى: الخلاف بين الإخوان والجماعة الليبية المقاتلة، رغم أنه خلاف قديم، لم يهدأ إلا بسبب الحرب ضد «حفتر»، ولكن بعد طرد الأخيرة من بنغازى، ولجوئها لطرابلس، وجدت الإخوان قد انحازوا لحكومة «السراج»، فتجدد القتال، الظروف الراهنة تفرض الوحدة، ما دعا تركيا وقطر إلى جمع ممثليهم فى إستانبول سبتمبر 2017، لتحقيق الصلح، تجنباً لانعكاس الخلاف على ثقل الإسلام السياسى خلال الانتخابات المقبلة، خاصة أنهما يراهنان على دعم مرشح يعيد الإسلام السياسى إلى المشهد.. الثانية: الأوضاع فى مصراتة تشكل هاجساً مزعجاً، لأنها تتجه نحو التدهور، نتيجة للصراع بين الجماعات المتطرفة الموالية للمفتى المعزول، الصادق الغريانى، ومجموعة «التيار المعتدل»، محمد اشتيوى، عميد البلدية، تم اغتياله نهاية 2017، ومدير الأمن المستقيل حذر من هيمنة المتطرفين على المدينة، وفتح الطريق لـ«داعش»، وهو ما دفع تركيا للتفكير فى فتح جبهة طرابلس، لحشد الميليشيات، ووضع حد لاقتتال مصراتة.
الثالثة: الانتخابات الرئاسية، التى توافق «حفتر» و«السراج» على سرعة إجرائها، تركيا تدرك من خلال التجربة المصرية أن الانتخابات تخلق شرعية جديدة، لا تجدى معها المنازعة بشرعيات سقطت، لذلك تحاول أن تدفع للانتخابات أحد الوجوه التى تحظى بالقبول، وتعيد الإخوان للمشهد، لكنها تتحسب لصعوبة ذلك بإعداد البديل، وهو منع إجراء الانتخابات باختطاف طرابلس، حتى تفقد أى انتخابات لا تجرى فى العاصمة مشروعيتها، وذلك بتعبئة ميليشيات من مصراتة، الزاوية، الجبل الغربى، وصبراتة، ومسلحى سرايا الدفاع عن بنغازى، للمشاركة فى هجوم يستهدف إحكام السيطرة عليها، وتراهن فى ذلك على حكومة الإنقاذ المنبثقة عن المؤتمر المنتهية ولايته، لذلك كلفت شركة الراية الخضراء، التابعة للمخابرات السودانية، بشحن أسلحة للميليشيات، بعيداً عن مراقبة اليونان ومصر لسواحلهما، والبحرية الأوروبية للسواحل الليبية، حتى تتمكن من حسم المعركة، قبل تدخل أى أطراف خارجية، الخطط المتعلقة بذلك تم بحثها فى إستانبول والدوحة مع عدد من قيادات الإخوان، كان أبرزها لقاء «السويحلى»، رئيس المجلس الأعلى للدولة، مع وزير الدفاع القطرى مارس الماضى.. إعلام الدوحة بدأ بث خطة التشكيك فى جدوى الانتخابات.. مثلث الشر «قطر، الإخوان، تركيا» يوجع قلوبنا كل يوم بالجديد، ومن سخرية القدر أن الجيوش الصامدة، أمام محاولاتهم لإسقاطها، هى من تضمد جراحنا.. فهل تفلح مصر فى توحيد الجيش الليبى؟!.
مصر وإعادة توحيد الجيش الليبى (4)
أعاصير «الخريف العربى»، وتدخلات «الناتو»، قسّمتا الجيش الليبى؛ فريق انضم لمن أُطلق عليهم «الثوار»، والآخر أدرك حقيقة الفوضى، فدافع عن النظام، أطلق الرصاص، فأصاب المتآمر والبرىء، والثالث رفض إطلاق النار حتى لا يصيب من ظنهم متظاهرين، وقطاع أعيته الحيلة فهرب إلى مالطة.. وهكذا، انفرط عقد الجيش، فسقطت الدولة، وهو الهدف الحقيقى لمؤامرة 17 فبراير 2011، وبسقوطها عاد بعض الضباط المنشقين لمصراتة، مسقط رأسهم.. منهم المتشددون مثل العميد زَقَل، قائد «الحرس الوطنى»، الذى يقود مئات الضباط والجنود، لحساب حكومة الإنقاذ التى يرأسها خليفة الغويل، ومنهم من قاد المجالس العسكرية للمدن بالمنطقة الغربية، وتبعتهم تشكيلات من الميليشيا المسلحة، جميعهم يعارضون توحيد الجيش، حفاظاً على مصالحهم.. وبعضهم معتدل مثل العقيد سالم جحا، وهم على استعداد لتقبل الحلول الوسط لتوحيد الجيش، لأن أولويتهم عودة الدولة.. ومنهم من ضل الطريق مثل العميد مصطفى الشركسى، الآمر السابق لمنطقة بنغازى العسكرية، الذى يقود «سرايا الدفاع» الإرهابية التى تمولها قطر، والفريق على كَنَّة، الذى انضم بجماعته لقبيلته «الطوارق» بالجنوب، داعماً انشقاق موسى الكونى، ابن القبيلة، عن المجلس الرئاسى التابع لـ«السراج»، وملوحاً بفصل إقليم فزان عن الوطن الأم!!.. وهناك الضباط أنصار النظام السابق، ومعظمهم يحجمون عن المشاركة، سواء فى «الجيش» بحكم تحفظهم على قيادة «حفتر»، لخروجه على «القذافى»، أو ضمن تشكيلات الثورة المسلحة، التى أطاحت بالنظام.. هذا الانقسام نشأ عنه انقسام تنظيمى بين القيادة العامة للجيش، التابعة لبرلمان طبرق، ورئاسة الأركان العامة بطرابلس، التابعة لـ«السراج».. ناهيك عن الانقسام الجهوى الذى وضع مصراتة وطرابلس فى مواجهة عسكرية ضد بنغازى والزنتان.. واحسرتاه على جيش حمى ليبيا لعقود، وصنع الرخاء لشعب طيب، بات يبكى أيامه دماءً.
البعد العائلى والقبلى فى هيكلة الجيش كان نقطة ضعف خطيرة، تسببت فى تكرار محاولات الانقلاب؛ «العقيد آدم الحواز، ديسمبر 1969، الرائد بشير هوادى والنقيب عمر المحيشى، 1975، من أُعدموا فى أبريل 1977، حسن إشكال، نوفمبر 1985، ضباط ورفلة 1993..»، «القذافى» أسس تشكيلات خارج نطاق هيكل القيادة لتأمين النظام «اللواء الـ32 بقيادة نجله خميس، الكتائب الأمنية، فيلق الحرس الثورى..»، وشكل «الجيش الإسلامى الأفريقى» من عناصر أجنبية، تحولوا بعد سقوطه لمقاتلين بـ«داعش».. التداخل بين هيكل النظام والهيكل العسكرى أدى لاستقالة عدد من كبار القادة، مع بداية الاضطرابات السياسية، ما فكك الجيش وعجّل بسقوط النظام «أحمد قذاف الدم، واللواءان عبدالفتاح يونس، وسليمان محمود..».
عدد الضباط والجنود النظاميين «140.000»، لملم «حفتر» منهم قرابة «35.000»، وأعاد هيكلة الجيش لتندرج داخله كل التشكيلات العسكرية والأمنية، «السراج» بذل جهداً للملمة بقايا جيش المنطقة الغربية، جمع ضباطه، أكتوبر 2016، بطرابلس، لبحث إمكانية إعادة تنظيمهم، وآليات توزيع المناصب، ولكن دون نتائج.. مصراتة تدرك أن وضعها الراهن كقوة عسكرية موضع تخوف واستنكار القبائل، لأنه يخل بتوازنات تقليدية مستقرة، لذلك تسعى إلى تقنين أوضاعها واستثمار نتائج الفوضى، باكتساب وضع مميز بين القبائل وداخل مؤسسات الدولة، مبادرة مصر لـ«توحيد الجيش» سببت إزعاجاً شديداً لها، لأنها تدرك انحياز القاهرة للجيش الوطنى، لذلك تبنى بعض ضباطها مبادرة لتنظيم وتوحيد وإعادة هيكلة الجيش بمناسبة الذكرى الـ77 لتأسيسه، 9 أغسطس 2017، هم يدركون استحالة الالتفاف حولها، ولكنها ورقة ضغط تعزز موقف وفد حكومة الوفاق فى مفاوضات القاهرة، بدليل مسارعة الناطق باسم وزارة الدفاع لحكومة «السراج» بالترحيب بها، وتلته باقى كتائب ميليشيات مصراتة.. والنتيجة المحبطة أن التشكيلات العسكرية أضحت تنبثق عن كيانات سياسية متعارضة المصالح؛ المجلس الرئاسى، البرلمان، حكومة «الغويل»، مصراتة، والزنتان.
فى ليبيا يدركون أن توحيد الجيش هو المقدمة الحتمية لعودة الدولة، وبدونه لا يمكن الاستفتاء على الدستور، أو تنظيم الانتخابات الرئاسية والبرلمانية والمحلية.. وفى مصر يدركون أن توحيد الجيش الليبى يكفل أمن الحدود الغربية «1115 كم»، وسلامة العمالة المصرية، ويجنبنا صعود التيارات الداعمة للإخوان.. مصر بدأت مبادرة توحيد الجيش بدعوة عدد من المهتمين بالشأن العام، ديسمبر 2016، برعاية اللجنة الوطنية المصرية المعنية بليبيا، التى يرأسها الفريق حجازى، للاتفاق على الثوابت الوطنية، أهمها وحدة ليبيا، وحدة الجيش، ترسيخ التوافق، حرمة الدماء، المصالحة الشاملة، الدولة المدنية الديمقراطية الحديثة، التداول السلمى للسلطة، مكافحة التطرف والإرهاب، رفض التدخل الأجنبى.. الاجتماع التالى كان سياسياً، شارك فيه عقيلة صالح، «حفتر»، و«السراج»، فبراير 2017، تمت فيه مراجعة تشكيل وصلاحيات المجلس الرئاسى، ومنصب القائد الأعلى، وإجراء انتخابات برلمانية ورئاسية.
مصر دعت وفداً من مصراتة للتفاوض، يوليو 2017، لكنه جاء متأثراً بضغوط المتشددين الذين يميلون لاستغلال الظروف الراهنة فى تحقيق مكاسب سياسية، لذلك فضلت تجنب تعدد قنوات الحوار، وركزت على قضية محورية، مباحثات توحيد الجيش شهدت جولات متعددة، بعضها سياسى عسكرى، وبعضها لجان عسكرية؛ بدايتها أبريل 2017، وآخرها مارس 2018، الحوارات تضمنت قضية إعادة الهيكلة، وإبعادها عن الصراعات العقائدية والجهوية والتجاذبات السياسية، والعلاقة بينها وبين السلطة المدنيّة، وتحديد شخص ومهام القائد العام وشخص ومهام القائد الأعلى، والعلاقة بينهما، وبُحِثت آليات التنفيذ، أهم ما تضمنته إدماج وزارة الدفاع بحكومة طبرق بالقيادة العامة للأركان التابعة لـ«السراج»، إلغاء منصب وزير الدفاع، وإنشاء مجلس للقيادة العامة، يتكون من القائد العام، ورئيس الأركان العامة كنائب له، وعضوية قادة الأسلحة النوعية كافة، والإدارات المهمة، بالإضافة إلى آمرى المناطق العسكرية، بينما سيكون مجلسا الدفاع والأمن القومى بمثابة الأجسام القيادية العليا برئاسة رئيس الدولة.
الاتفاق النهائى كان مقرراً توقيعه 20 مارس، ولكن ذلك لم يتم.. ليس هذا نهاية المطاف، ولكن ينبغى أن نتفهم أن المفاوضين يحملون على كاهلهم تراكمات سبع سنوات من التعبئة والعداء، ومسئولية الدفاع عن مصالح متعارضة، ويدينون بولاءات وارتباطات مع قوى خارجية أهمها قطر وتركيا، بخلاف تأثير الإخوان والضغوط القبلية.. «السراج» أقال محمد الغصرى، المتحدث باسم وزارة الدفاع، بسبب تصريحه الرافض لاجتماع القاهرة ونتائجه، «السويحلى» استقبل قادة «البنيان المرصوص»، بالتزامن مع الاجتماع للاحتجاج، وعلى رأسهم العميد عبدالفتاح قنيدى، الذى فصله «السراج» من الخدمة بسبب تهديداته لمصر نوفمبر 2017، والإخوان حرضوا الجماهير على التظاهر بطرابلس.. وقادة «البنيان المرصوص» هددوا باقتحام العاصمة.. لذلك ينبغى النظر لإيجابيات ما تحقق، فقد تأكد أن هناك من يؤمن بالمصالحة، وأن الجهود المصرية لتوحيد المؤسسة العسكرية الليبية أضحت موضع دعم فرنسى وتفهم إيطالى، وتقبل أمريكى، ومصلحة اقتصادية واستراتيجية لروسيا، ومباركة الأمم المتحدة، وأن الأجواء صارت مهيأة للقاءات تالية، ربما كانت أكثر إيجابية.. مصر يا سادة توحِّد جيش الأشقاء فى ليبيا.
إشكاليات تسوية الأزمة السياسية فى ليبيا (5)
«الهيئة التأسيسية لصياغة مشروع الدستور الليبى» انتُخبت فى اقتراع عام، 20 فبراير 2014، تتألف من 60 عضواً، موزعين بالتساوى بين الأقاليم الثلاثة «برقة» فى الشرق، «طرابلس» فى الغرب، «فزان» فى الجنوب، بواقع 20 مقعداً لكل منها، تتضمن 5 مقاعد للمرأة و6 للأقليات (الأمازيغ والتبو والطوارق).. انتهت مهمتها بإقرار مشروع الدستور بأغلبية 43 صوتاً من 44 حاضرين وأحالته للبرلمان يوليو 2017. المشروع اشترط مضىّ عامين على انتهاء خدمة المرشح لرئاسة الجمهورية حال انتمائه للمؤسسات العسكرية والأمنية، وألا يحمل جنسية أخرى، هذه الشروط تستهدف إخراج «حفتر» من معادلات التنافس السياسى، لكونه أعيد للخدمة العسكرية منذ يناير 2015، ويحمل الجنسية الأمريكية. بعض أعضاء «التأسيسية» طعنوا أمام محكمة «البيضاء» لإبطال إجراءات إحالة مشروع الدستور إلى البرلمان، استناداً إلى عدم مشروعية جلسة التصويت، لعقدها يوم عطلة رسمية، لكن المحكمة رفضته. عدد من الشخصيات العامة من بنغازى تقدموا بطعون أخرى، نوفمبر 2017، لكن دائرة القضاء الإدارى بالمحكمة العليا حكمت بعدم الاختصاص، استناداً إلى أن أعضاء «التأسيسية» منتخبون مباشرة من الشعب، ما يُخرج قراراتهم عن ولاية القضاء. أعضاء «التأسيسية» عن «برقة» و«الجبل الغربى» وصفوا الحكم بأنه مسيَّس، وتمسكوا برفض المشروع، مهددين بالعصيان المدنى، و18 نائباً أعلنوا رفضهم للمشروع، وطالبوا بتشكيل لجنة خبراء لتعديل دستور 1951 باعتباره البديل الأفضل.
الأزمة السياسية تكاد تستعصى على الحل، لأنها تركيبة أزمات متنافرة صنعتها أجهزة مخابرات دولية تستهدف ألا تقوم لليبيا قائمة، وأن تظل بلداً مفتتاً، وقاعدة لتصدير الإرهاب والفوضى لدول المنطقة، وأن تصبح مأوى بديلاً لمن انقطع أملهم فى سيناء، بعد نجاحات الجيش، خاصة فى «العملية سيناء 2018». الجميع كان يعول على اتفاق الصخيرات، لكنه سقط بعد انتهاء الإطار الزمنى المحدد لسريانه فى ديسمبر 2017 دون التوصل لأى حلول، البعض راهن على حكومة «السراج» دون إدراك بأن نمط حكومة «كرزاى» لا توحد دولاً، ولا تُنهى صراعات، والبعض الآخر راهن على «حفتر» الذى نجح فى لملمة بقايا الجيش الوطنى، وحرر المنطقة الشرقية، والهلال النفطى، ومعظم الجنوب والوسط، لكن الحظر المفروض على تصدير السلاح حال دون التمدد للغرب. لم يعد فى جعبة المغامرين سوى الرهان على الانتخابات. «المشروع الانتخابى الليبى» لتعزيز قدرة المفوضية الوطنية العليا للانتخابات على إدارة العمليات الانتخابية هو آخر مبتكرات برنامج الأمم المتحدة الإنمائى، فرنسا عززته بـ200 ألف يورو، هولندا تعهّدت بـ1.65 مليون دولار، دون أى تقدير لما تنطوى عليه الانتخابات فى الظروف الراهنة من محاذير ومخاطر.
الانتخابات التشريعية فى 2014 أثارت فوضى عارمة، رغم أن الجماعات المسلحة كانت أقل تنظيماً، والانقسامات السياسية كانت قابلة للتدبير، فما بال لو تم تنظيمها اليوم حيث لا توجد قوات أمن وطنية قادرة على تنظيم عمليات التصويت على امتداد البلاد. النتائج سيتقبلها الفائز، ويرفع المهزوم سلاحه اعتراضاً. مشروع الدستور يقسم ليبيا إلى أربع دوائر انتخابية «برقة، طرابلس، فزان، والليبيون بالخارج»، والدستور لا يكون نافذاً إلا بموافقة ثلثَى المقترعين بكل دائرة من الدوائر الأربع، عدم استيفاء النصاب فى دائرة واحدة يُعد رفضاً من كل الشعب، وتعاد صياغته من جديد. برقة تعتزم توفير الأغلبية الكفيلة بإسقاطه، وطرابلس قد لا يتسنى إجراء الاستفتاء فيها لاعتبارات أمنية، مما يُسقط مشروعيته. الإخوان يتواصلون مع التنظيم الدولى فى تركيا وموريتانيا لبحث ترتيبات توظيف الانتخابات للعودة للسلطة، ويتلقون دعماً من إخوان تونس، ويخططون للتلاعب فى النتائج من خلال سيطرة عناصرهم على منظومة الرقم الوطنى، والمفوضية العليا للانتخابات، سميرة الفرجانى، وزيرة الشئون الاجتماعية السابقة، حذرت من بدء عمليات تزوير فى السجل المدنى.
لجنة التوعية والتثقيف بـ«الدستورية» طالبت البرلمان بإصدار قانون الاستفتاء وفق الإعلان الدستورى وتعديلاته، بعد إدراكها لعدم تحمسه، المجلس الأعلى للدولة برئاسة «السويحلى» بادر بإقرار مقترح لقانون الاستفتاء على مشروع الدستور بأغلبية 52 عضواً من بين 74 حضروا الجلسة، وذلك فى خطوة تصعيدية أثارت غضب أعضاء البرلمان، وكشفت محاولات التعجيل بالاستفتاء كجزء من خطة الإخوان لتوظيف الانتخابات فى العودة للسلطة.. البرلمان أحال مشروع قانون الاستفتاء إلى اللجنة القانونية لدراسته وإبداء الرأى قبل طرحه للتصويت، لكن استقالة بعض أعضاء اللجنة والغياب المتكرر للآخر أفقداها النصاب، فلم تطرحه للمناقشة. البرلمان يعتزم تشكيل لجنة خاصة لمناقشته وإعادة صياغته، ولكنها تميل فى الحقيقة إلى عرقلته والذهاب للانتخابات بموجب الإعلان الدستورى، لذلك اعتمد «الصيغة التوافقية» التى قدمها غسان سلامة، المبعوث الدولى، بشأن تعديل الإعلان، والتى رفضها مجلس الدولة، وتمسك بإتمام التعديل من خلال لجنة مشتركة من البرلمان والمجلس. المبعوث الدولى قدم خريطة طريق «سبتمبر 2017» تبدأ بتعديل اتفاق الصخيرات، وتنتهى بالاستفتاء على الدستور، والانتخابات الرئاسية والتشريعية، لكن تنفيذها يواجه طريقاً مغلقاً، البرلمان لديه تحفظات موضوعية وسياسية على مشروع الدستور، وبعض النواب يميلون إلى حل «التأسيسية» وتعيين لجنة خبراء فى القانون الدستورى توكل إليها مهمة إعداد مشروع جديد خلال 60 يوماً.. رفضُ إقليم برقة والجبل الغربى لمشروع الدستور يتحول إلى حركة شعبية بانطلاق حملات تفويض «حفتر» لتولى الرئاسة، والتى شارك فيها قرابة مليون وثلاثمائة ألف، من خلال نماذج الاستبيان، ومواقع التواصل، قادة الحملات يعتزمون إرسال كشوف التفويض إلى الأمم المتحدة والاتحادين الأوروبى والأفريقى وجامعة الدول العربية.. القبائل الليبية الموالية للنظام السابق، وأنصار القذافى بالخارج، أطلقوا حملات لدعم سيف الإسلام القذافى، نجل معمر القذافى، ونظموا اجتماعات مكثفة لمناقشة الأسماء المرشحة للانتخابات التشريعية المقبلة.. الاستعداد على أشده، فى منافسة لا تسمح الظروف الراهنة سوى بتحولها إلى مواجهات دامية.
الأزمة الليبية دخلت عامها الثامن، والمشهد ما زال معقداً، لأن كل القوى تعبث، وكل عابث لا يبتغى سوى مصالحه.. لا يمكن نجاح الانتخابات دون حملة إعلامية تسمح للمواطن بإدراك خطورة الإخوان، وارتباطاتهم الدولية، وعلاقتهم بمخططات تفتيت الدولة، وبالتالى القدرة على التمييز بين المرشح الإخوانى وغيره.. لا يمكن إجراء الانتخابات دون توحيد الجيش وقوى الأمن الداخلى لتأمين كافة اللجان فى أرجاء الدولة.. لا يمكن تنظيم الانتخابات قبل توحيد بنك ليبيا المركزى، ومؤسسة النفط، ووضع منظومة الرقم الوطنى تحت إشراف الأجهزة الأمنية، منعاً لتوظيف مؤسسات الدولة وعوائدها لصالح البعض.. عندما يرى الجميع مصر وقد فرّغت بعض كبار مسئوليها للجنة مهمتها توحيد الجيش الليبى، وتحقيق المصالحة، سيدركون أنها الطرف الوحيد الذى يدرك أبعاد الأزمة، ويعرف مفاتيحها، ويبدأ بالقواعد والأسس.
بهذا أكون قد أنهيت ملف ليبيا ذا الفصول الخمسة، ليكون بين أيدى كل من يعنيه أمر الباحة الغربية لأمننا القومى، لكننى لم أنتهِ بعدُ من المتابعة والتناول، كلما فرضت المصلحة الوطنية ذلك.