المؤتمر العام لإخوان تونس «حركة النهضة»، قرر «الفصل بين الدعوة والسياسة».. وتحويلها لحزب سياسى، ينطلق من الدولة، ويسعى لحكمها، وترك الأنشطة الدعوية للجمعيات ومنظمات المجتمع المدنى.. التسويق السياسى والإعلامى للمؤتمر وقرارته إتخذ ابعاداً محلية وإقليمية ودولية واسعة، تتجاوز أهميته.. القرارات مجرد محاولة من الغنوشى للتعلق بقارب «الوطنية التونسية»، والنجاة بجماعته من سفينة «الدعوة الأممية» المشرفة على الغرق، عبر عنها تفصيلاً فى رسالته لمؤتمر التنظيم الدولى للإخوان بإسطنبول أبريل الماضى، التى إختتمها «لحظة الفراق بيننا وبين التنظيم قد اقتربت»، لكنها تُقَدَم باعتبارها بعث جديد للإخوان، يقوم على وطنية الجماعة، يعطى أولوية لخصوصية المجتمع، يعالج سلبيات الماضى.. طرح مخادِع، ينبغى كشف حقيقته.
خطورة «النهضة» تكمن فى قدرة قياداتها من الحمائم «الغنوشى، مورو…» على القراءة الصحيحة للمشهد، ومواجهته بمرونة وبراجماتية، ما جنبهم الوقوع فى أخطاء إخوان مصر.. إعتبروا الثورة وسيلة للتحرر من السجون، وممارسة لعمل سياسى كان محظوراً، فلم يقعوا فى فخ «التمكين» أو إحتكار السلطات، تحالفوا مع القوى العلمانية، ورفضوا التحالف مع السلفيين، ليدفعوا عن أنفسهم فكرة التشدد، ويتجنبوا سلبيات لإثارة القضايا المستفزة كزواج الأطفال والمرأة والختان وولاية الذميين..الخ، تجنبوا خوض السباق الرئاسى، لإعفاء أنفسهم من تبعات التصيد لإدارة دولة متعثرة، تمسكوا بمدنية الدولة، وأعطوا أولوية للوطنية التونسية على الإرتباط بالتنظيم الدولى وفكرة الأممية، رغم ذلك يمثل جناح الصقور الشريحة الأوسع بالجبهة.. يستنكر الفصل بين الدين والسياسة، يرفض تحولها لحزب، يستهدف دولة الخلافة، ينتقد براجماتية القيادة، حتى أنه رفض الإستجابة لدعوة التصويت للمرزوقي في انتخابات 2014.. الحمائم يؤكدون أهمية الفصل فى إستقطاب القواعد الجماهيرية، بينما يحذر الصقور من أنه سيفقدها الكثير من قواعدها السياسية، ويراهنون على رحيل قادة الحمائم المتجاوزين للسبعينيات.
فضيحة «أوراق بنما» كشفت تورط قيادات «النهضة» فى إنشاء شركات «إنتاج إعلامى، ومراكز أبحاث ودراسات» لإدارة أنشطة الغنوشى فترة لجوئه لبريطانيا، وتهربهم ضريبياً من خلال ملاجىء غير قانونية، بالتعاون مع يوسف ندا، الفضيحة شملت لطفى الزيتون مدير مكتب الغنوشى ومستشاره، رفيق عبد السلام وزير خارجية حكومة النهضة، راشد الغنوشى وإبنته، جمال الدلالى مؤسس قناة “تى ان ان”، محسن مرزوق مؤسس حزب مشروع تونس، وسمير العبدلي المرشح للرئاسية الماضية.. القضية فجرت ملف الفساد تحت حكم «النهضة»، تونس تراجعت فى مؤشر الشفافية الدولية 58/2010، 73/2011، 75/2012، 77/2013، 79/2014، 76/2015، وخسائرها السنوية جراء التهرب الضريبى قرابة 2.5 مليار يورو، المالية فتحت التحقيق، بالتنسيق مع الجمارك والضرائب والمركزى والعدل والنيابة، والبرلمان شكل لجنة خاصة، موقع «ويكيليكس» إتهم المخابرات الأمريكية بتسريب الوثائق، خاصة انها خلت من المسئولين الأمريكيين، والصندوق الأمريكي لدعم الديمقراطية، كشف أن جمعيات تابعة للإخوان «تونسيات، مرصد المواطن للإعلام، الجمعية الدولية لمساندة المساجين السياسيين، منتدى الجاحظ» تتلقى تمويله السنوى، ما يؤكد إستهداف المخابرات الأمريكية لـ«النهضة»، حتى لاتتمادى فى إجراءاتها لحد إلحاق الضرر بالتنظيم الدولى.
تحولات «النهضة» جاءت لمواجهة الظروف السياسية؛ فازت بالإنتخابات التشريعية نوفمبر 2011 قادت البلاد بحكومة الترويكا «النهضة، التكتل، المؤتمر من اجل الجمهورية» حتى 2014، بعد اغتيال شكري بلعيد فبراير 2013، وافقت على إقالة حكومة حمادى الجبالى، بعد اغتيال محمد البراهمى يوليو 2013، وافقت على إقالة حكومة على العريض، واضطرت لترك السلطة لحكومة تكنوقراطية، بعد تنامى الإرهاب، وتعدد الأنشطة الجهادية ضد الأمن والجيش، فى ظل الحكومات التى قادتها.. فى الانتخابات التشريعية 2014 خسرت النهضة لصالح «نداء تونس» بقيادة السبسى، وتراجعت شعبيتها نتيجة ضمور الثقة في الإسلام السياسى، وسخط قواعدها بعد تبنيها للدستور المدنى.. حكومة الصيد تحاول تحرير المساجد من المتشددين؛ أغلقت 187 مسجد عشوائى بنيت دون تصريح، استرجعت 149 تابع للتكفيريين، وعزلت أئمة الجهاد، ومعظمهم تابع لـ«النهضة»، التى لازالت تتمسك بالائتلاف الحاكم بقيادة «نداء تونس»، رغم أنها أصبحت القوة الأولى فى البرلمان بـ69 نائبا، بعد تراجع مقاعد الأولى لـ59؛ إثر انشقاق عدد من النواب.
الغنوشى يُرجع أزمة التنظيم للجمع بين العمل الدعوى والسياسى، متناسياً أن إخوان مصر أسسوا حزب «الحرية والعدالة»، لمعالجة ذلك، ولكن طبيعة البناء التنظيمى العقائدى التربوى للجماعة يمنع الفصل، ويبقى العلاقة هلامية بين مؤسسات الجماعة والدولة والتنظيم الدولى، مما أسقط حكم الإخوان، وكاد أن يؤدى لإنهيار الدولة.. الهاجس الرئيسى المُحرك للغنوشى هو الحفاظ على الإخوان، بعد ان اصبحت مقراتهم تُستهدف بالحرق، آخرها بالزعفرانة فى الجنوب.. إعتاد التلون، لكن تقدم السن يُفقده التوازن، الى حد تبرير رفضه تجريم المثلية الجنسية، بأن القانون لا يتتبع الحياة الخاصة للأفراد!!، وعد بتجديد دماء التنظيم، وإعادة هيكلته، لكنه تمسك برئاستة، وسعى لمجرد توفيق أوضاعه مع دستور 2014 الذى يحظر الجمع بين العمل الحزبى وأنشطة الجمعيات، فأعاد توزيع الأدوار داخل «الجبهة»؛ القيادات والجناح السياسى يتفرغ لتشكيل حزب وطنى، مهمته إعادة تمركز «الجبهة» فى النظام السياسى بصورة أكثر رسوخاً، والقيادات العقائدية تتولى النشاط الدعوى من خلال تكوين جمعيات أهلية ومنظمات مجتمع مدنى، تتمسك بالرسالة الأممية، وفكرة الخلافة، لتضمن تأييد القواعد السلفية، ومهمتها تفريخ المؤيدين، وتوفير الإسناد العقائدى للحزب.. هذا الفصل لن يجرد «النهضة» من هويتها، بل سيفرز واجهة سياسية حزبية بخلفية عقائدية، مما يفسر إستنكار الغنوشى «إصرار البعض على إقصاء الدين من الحياة الوطنية»، وتأكيده على «مشاركة الحركة مع التيارات الاسلامية الوسطية» التى يقصد بها الإخوان بالطبع!!.
انفصال «النهضة» عن التنظيم الدولى، يمثل إحدى المحطات الرئيسية على طريق إنهياره، بعد سقوط وانشقاق إخوان مصر، وانفصال إخوان الكويت والإمارات والمغرب والأردن، وإعلانهم تنظيمات إرهابية بالسعودية وبعض دول الخليج، والمراجعات السياسية لحماس.. إعلان الفصل بين السياسى والدعوى، محاولة للحفاظ على الجماعة، حتى ولو فى إطار تنظيم حزبى وطنى.. تحمُس إخوان مصر لفكرة الفصل، رغم أنهم أول من ابتكروها، وفشلوا فى تطبيقها، يؤكد ان الغنوشى القى بطوق نجاة للإخوان، فى محاولة لوقف إنهيارهم السريع، ما يعنى إطالة مرحلة السقوط، وإتساع الخسائر، وتضاعف الضحايا.. الأوضاع الأمنية فى تونس هشة، لاتحتمل المخاطرة، خاصة فى ظل أوضاع ليبية معرضة للإنفجار، وإحتمال لجوء المزيد من الإرهابيين واللاجئين اليها.. مشاركة «الجبهة» فى الحكم شرط لإستمرار الدعم القطرى، فمتى تنتاب الشيخ ساعة هداية؟، وتتغلب حكمة الزمان، وزهد الشيخوخة؟.. فيتخلى عن المكر السىء، ويوقف رقصة الذئاب على جثة الوطن؟!.