برناردينو ليون المبعوث الدولى لليبيا أعلن حكومة الوفاق الوطنى، ضمن إجراءات تنفيذ “اتفاق المصالحة” الموقع بالصخيرات، إختار فايز السراج لرئاستها، رغم قصور خبرته عن مواكبة عُمق الأزمة الراهنة فى البلاد، لكنه قدّر أن نجل مصطفى السراج صاحب الدور الوطنى إبان الإستقلال، المنتخب بـ”مجلس النواب” عن طرابلس، يمكن أن يوفر البيئة الحاضنة لتواجد الحكومة بالعاصمة، الخاضعة لقوات “فجر ليبيا” والإخوان و”المؤتمر الوطنى المنتهية ولايته”، وإرتباطه بعلاقات نسب مع عبدالرحمن السويحلى، يضمن دعم مصراتة، صاحبة أكبر كتائب للميليشيات، وأقواها تسليحاً.. الإتفاق تضمن تشكيل مجلس رئاسة، يضمه وثلاثة نواب؛ أحمد معيتيق، موسى الكونى، وفتحي المجبرى، ووزيرين؛ عمر الأسود، ومحمد العماري.. السراج ومعيتيق والأسود والعمارى ينتمون جهوياً للمنطقة الغربية، الكونى لطوارق الجنوب، والمجبرى للشرق.. سياسياً ينتمى اثنين لـ”المجلس”، ومثلهم لـ”المؤتمر”، والأخيرين من خارجهما.. ليون أراد ان تعبر الحكومة عن القوى الفاعلة على الأرض، رغم ما يسببه ذلك من حساسيات جيوسياسية توثر على تماسك الدولة.. إختيار المجبرى إستجابة لترشيح إبراهيم الجضران، المسيطر على الشريط النفطي، لضمان فتح الموانئ وتوفير مصادر تمويل لأنشطة الحكومة.. تصعيد أعيان ورجال أعمال وقادة سياسيون من مصراته، يضمن حماية كتائبها للحكومة فى طرابلس “كتائب الحلبوص- المحجوب- الجيش الليبي بالمنطقة الغربية- القوات المساندة برئاسة ادريس مادي وعمر تنتوش..”، كبديل لمليشيات عبد الحكيم بالحاج وخالد الشريف وصلاح بادى، الأذرع العسكرية للاخوان، التى تحفظ عليها السفراء الأوروبيون، رغم ضغط السفيران الأمريكى والقطرى لتكليفها بتلك المهمة، مايفسر إختيار فتحي بشاغة لرئاسة مجلس الأمن القومي وعبد الرحمن السويحلي لمجلس الدولة، لعلاقتهما بكتائب مصراتة، وقدرتهما على ضمان ولائها للحكومة.
المشاكل بدأت مبكراً.. “المؤتمر” طالب بإتمام الترتيبات الأمنية مع اللواء عبدالسلام العبيدي رئيس الأركان التابع له، لضمان عدم المساس بميليشيات “فجر ليبيا”.. إحساس الغُبن السائد بالمنطقة الشرقية، لضآلة نصيبها من المحاصصة، شكل ضغطاً على حفتر لبدء “العملية حتف” لتحرير بنغازى، لتتزامن الترتيبات المرتبطة بالتسوية، مع اوضاع متوازنة على الأرض.. نواب برقة يستعدون للتصعيد، مهددين بتشكيل حكومة للإقليم، وإعادة ترتيب موارده وقواته العسكرية والأمنية.. ونواب الزنتان تحفظوا على وجود ممثلها “الأسود” كوزير مفوض، مقابل وجود ممثل مصراتة “معيتيق” نائباً لرئيس الحكومة.. براجماتية ليون عززت المخاوف المتعلقة بتفكك الدولة، خاصة وان تشكيلة الحكومة خضعت لتركيبة معقدة من المعايير والإعتبارات.. تارة لمنطق المحاصصة، واخرى لتوازنات القوى، وثالثة للبراجماتية وتغليب المصلحة، ماحولها لتركيبة غير متجانسة من اصحاب الأجندات المتعارضة، الذين يصعب توافقهم، رغم أن صياغتة للإتفاق إستندت على مبدأ التوافق، وعدم تكريس هزيمة طرف، ورؤيته انطلقت من أن مايجري صراع سياسى، لاحرب عصابات، ومليشيات مدعومة من الخارج.. “خلطة ليون” أكسبتها الشرعية.
“المجلس” الذي انتخب في يونيو 2014 تنتهى ولايتة 20 أكتوبر الجارى، ليون إستخدم ذلك كورقة ضغط لإجباره على التوافق والتوقيع على الإتفاق، قبل إنتهاء مدة ولايته الشرعيه، وفقاً للإعلان الدستوري المعدل للجنة 17 فبراير، وهو ماشجع “المؤتمر” على التشدد، والمناورة، الى حد إجراء تغيير مفاجيء في الوفد الممثل له، لتعطيل الحوار، حتى ذلك التاريخ، الذى يتساوى فيه مع “المجلس” فى إنعدام الشرعية!!.. وذلك بالإضافة لضغوطه على ليون، برفض التوقيع على المسودة الرابعة للإتفاق فى يولية، ماأجبره على تعديلها، على حساب “المجلس”.. مجلس البحوث الشرعية بدار الإفتاء التابعة له شككت فى ان المبادئ الحاكمة بوثيقة ليون لاتكفى لتحقيق حاكمية الشريعة الإسلامية، وحزب العدالة والبناء التابع للإخوان إعترض على إقتراح ليون لأسماء وزراء الحكومة، متجاوزاً صلاحيات مجلس رئاستها، وعلى تسميتة لرئيس المجلس الأعلى للدولة، الذي يُعد من صلاحيات المجلس ذاته، “المؤتمر” نظم ورشة عمل بعنوان “البديل عن مشروع ليون”، صاحبها مظاهرات رافضة للإتفاق فى طرابلس العاصمة.. رغم أن ليون منحه أغلبية “75%” فى مجلس الدولة، ليصبح شريكاً للبرلمان فى القرارات السيادية، كتعديل الإعلان الدستورى، سحب الثقة من الحكومة، إصدار القوانين، تعيين شاغلى المناصب السيادية “الجيش- الأمن- المصرف المركزى- النيابة العامة- ديوان المحاسبة- الرقابة الإدارية- مكافحة الفساد- مفوضية الانتخابات…”، التى يعاد النظر فيها خلال 20 يوماً من توقيع الإتفاق، ومالم يتم التوافق بشأنها تصبح شاغرة، مايعنى مشاركته الكاملة فى تعيين الكوادر التى ستقود الدولة. لكنه يروم المزيد.
الهيئة التأسيسية لصياغة الدستور شاركت فى المؤامرة على “المجلس” المنتخب، فبعد ان حال إختلاف انتماءات الأعضاء دون توافقهم على التوجهات الرئيسية “دستور إسلامى، علمانى، إتحادى، اللغة الرسمية، العاصمة…الخ”، انتخبوا لجنة من أربعة أعضاء من كل إقليم أسموها “لجنة العمل”، إنتقلت الى غدامس، مبتعدة عن تأثير “المجلس” و”المؤتمر”، توافقت على معظم المواد، توافقاً أقرب لتوجهات الإسلام السياسى، حاولت الهيئة الإنتهاء من عملها متزامناً مع الـ 20 من أكتوبر، حيث لن تكون هناك مؤسسة شرعية تسلم لها الدستور، وبالتالى تكون هي المؤسسة الوحيدة المنتخبة بالبلاد، فتتولى إدارتها حتى الانتخابات التشريعية القادمة!!.. الكل طامح فى السلطة، والجميع يبحث عن تفريغ الميدان لإنفراده بالحكم، وليبيا تنزف دماً.. “المجلس” أدراك طبيعة المؤامرات التى تحاك له، وتقديره لخطورتها دفعه لوضع خارطة طريق قبيل انتهاء مدته القانونية فى 20 أكتوبر، تضمنت تمديد ولايته لستة شهور، تجنباً لحدوث فراغ تشريعي، وإجراء تعديل دستورى، وتشكيل حكومة انتقالية، وإعلان حالة الطوارئ.. التمديد تم إقراره بالفعل، وتنفيذ باقى الخطة مرهون بنجاح الحوار من عدمه.
أزمة مؤسسات الدولة المدنية كانت مبرراً للجوء الى المنظومة القبلية، تلك المنظومة التى ساهم عجز الأنظمة العربية عن إحتوائها ضمن منظومة التنمية المدنية للدولة، فى الحفاظ على كيانها كرصيد إحتياطى، لإنقاذ الدولة من الصراعات السياسية المجنونة، وقت الأزمات.. مؤتمر المشايخ والحكماء والأعيان ببلدة سلوق “قرب ضريح عمر المختار” جنوب بنغازي 7 أكتوبر، إستهدف رأب الصدع الليبي، وفتح حوار ليبى ليبى مباشر تحكمه القيم التقليدية، وتنأى به عن المصالح السياسية والتدخلات الخارجية، وربما توصل للعمل كمجلس “شيوخ” يدير البلاد ليوقف القتال ويخلصها من الفوضى والخراب.. ذلك هو الأمل.
إستكمالاً للحوار الذى يقوده ليون للتوصل لـ”إتفاق المصالحة”، وفرض أوضاع سياسية معينة على الواقع الليبى، تقود أمريكا سراً مفاوضات باستانبول، أطلقت عليها “المسار الأمني”، تجمع 14 قائداً لمليشيات “فجر ليبيا”، و12 مبعوثا للأمم المتحدة، منهم خمسة أمريكيين، المفاوضات متعثرة بسبب رفض القادة للإتفاق السياسى الذى توصل له ليون، ومنعهم من المشاركة فى تأمين الحكومة الجديدة عند دخولها العاصمة، المبعوثين الأمريكيين يحذرونهم من مصير “إخوان مصر”، حال استمرارهم فى التشدد، وليون أوفد ممثليه الى تونس للإلتقاء بممثلى كتائب مصراتة لوضع الخطوط العريضة للخطة الأمنية لحماية الحكومة.
***
ليون أحد من يحملون لقب “مبعوث دولى”، لكنهم فى الحقيقة يمثلون أجهزة المخابرات الغربية، المعنية بإعادة ترتيب الأوضاع بالمنطقة وفقاً لمصالحهم، زار إعتصام الإخوان برابعة نهاية يولية 2013، باعتباره مبعوثاً للإتحاد الأوروبى!!، التقى بقادتهم، وأعرب عن تفهمه لتمسكهم بـ”الشرعية”، أكد للببلاوى أهمية الحوار ضمن عملية سياسية لاتُقصِيهُم، عاد فور إستشعاره توجه الحكومة نحو إعلان الإخوان جماعة إرهابية، لكنها فاجأته بنشر القرار بالجريدة الرسمية.. سبحان من نجانا من “خلطتة المسمومة”.