أزمة تشكيل حكومة العبادى فى العراق جاوزت الأربعة شهور.. ورقة “الإصلاح السياسى” كانت مفتاح التوافق، والإتفاق على مشروع تشكيل “الحرس الوطنى” كلمة السر.. مجلس الوزراء تعهد فى سبتمبر 2014 بإنجازه خلال أسبوعين، لكن المناورات الطائفية والسياسية عرقلته، حتى باتت الكتلة السنية تربط تصويتها على ميزانية 2015 بتضمينها مخصصات للقوة المقترحة، لكن الغريب ان تبدأ إجراءات التنفيذ على الأرض، فى غيبة الدولة، لتقدم نموذجاً فجاً للتدخلات الدولية بالمنطقة!!
مسودة قانون “الحرس” تتضمن تشكيل فرقة بكل محافظة، أى “لايقتصر على المحافظات السنية”، وتقضى بتشكيلها وفقاً لنسبة التمثيل الحقيقى لجميع المكونات فى مجتمع المحافظة، أى انها “غير طائفية”، باستثناء بغداد التى نص على 50% لكل من الشيعة والسنة، وكركوك “32% لكل من العرب والأكراد والتركمان، و4% للمسيحيين”، قوات “الحرس” تخضع للقوانين العسكرية، ولإشراف القيادة العامة للجيش، ورقابة البرلمان، وتشكل فى كل محافظة لجنة أمنية عليا برئاسة المحافظ لإدارة شئون الفرقة التابعة لها دون تدخل الحكومة المركزية، يعطى المشروع أولوية الإلتحاق لضباط الجيش السابقين، برتب أعلى من التى كانوا يحملونها “إكراماً لهم”، حتى لو سبق خضوعهم لقانون المساءلة والعدالة الذى يستهدف إجتثاث البعثيين، مايعنى ضم المنتمين للجيش والأجهزة السيادية والحزب إبان حكم صدام.. فى استعادة واضحة لرجاله!!
“الحرس” على هذا النحو يكفل تمركز فرقة محلية للدفاع عن المحافظة وسكانها.. بعيداً عن الميليشيات بما ترتكبه من تجاوزات لاتقل عن الجماعات الإرهابية، على نحو مارصدته هيومان رايتس واتش من تجاوزات “الحشد الشعبى” الشيعية بالمناطق السنية، ويخفف ذلك بالطبع من حدة شعور السنة بالتهميش والإستهداف، ويولد شعوراً بالمشاركة والمواطنة.. ويعيد الثقة والتعاون مع قوات الأمن.. ويحقق الإستفادة من خبرات الضباط السابقين الذين تم إقصاؤهم بعد حل المنظومة الأمنية عام 2003.
التكتلات السنية (اتحاد القوى العراقية، ائتلاف الوطنية) تحمست لقانون تشكيل “الحرس”، وأيدتهم “القائمة الوطنية” العلمانية، ودعمهم من خارج البرلمان قادة الحراك الشعبي بالمحافظات السنية، والشيخ وسام الحردان رئيس حركة الصحوات.. التكتلات الشيعية )إئتلاف دولة القانون، التحالف الوطنى، كتلة بدر، حزب الدعوة، المجلس الإسلامى الأعلى) اختلفت مواقفها؛ البعض أيد على استحياء باعتباره جزءاً من خطة الإصلاح، والآخر رفض خشية ان يؤدى الى تقنين وضع “الحشد الشعبي” بالمحافظات الجنوبية، والغالبية سارعت بإجراءات دمج المتطوعين والميليشيات الشيعية داخل الجيش والشرطة، وخصصت لذلك درجات وظيفية بموازنة 2015 (20 الف لوزارة الدفاع من إجمالى 60 الف بالخطة، 15,200 للداخلية).. ائتلاف القوى الكردستانية لم يرفض تشكيل “الحرس” بكافة المحافظات عدا كركوك “والمناطق المتنازع عليها” التى احتلتها قوات البشمرجة بعد 10 يونية 2014.. بعض القيادات السياسية طرحت فكرة إعادة تطبيق قانون الخدمة العسكرية الإلزامية، خروجاً من الأزمة.
الولايات المتحدة طرف رئيسى فى الأزمة، إستراتيجيتها لمواجهة داعش تعتمد على دعم القوات التي تُقاتل على الأرض بالمناطق التى تحتلها “داعش”، مستشاريها أكدوا أن 26 من إجمالى 50 كتيبة في الجيش يمكن الإعتماد عليها، بحكم جاهزيتها وموالاة قياداتها، وهو ما قد لايكفى لتأمين بغداد، الإعتماد على متطوعين شيعة لتحرير المناطق السنية يحرم الجيش من تعاون الأهالى، ويحولها لحرب ميليشيات طائفية، تشكيل “فرق الحرس الوطني” هو الحل، كما انه أحد عناصر أجندة إصلاح قطاع الأمن، أمريكا اتفقت مع العراق على تدريب متطوعين سنة من المحافظات الشمالية والغربية الخاضعة لداعش بمعسكر البغدادى فى الأنبار، لكنها اكتشفت أن معظمهم شيعة من المحافظات الجنوبية، لذلك بدأت تدير الملف مباشرة مع السُنة، بمنأى عن الدولة، وخلافات السياسيين، جون ماكين رئيس لجنة القوات المسلحة وزعيم الجمهوريين بالكونجرس التقى فى العراق بزعماء العشائر والسياسيين، ورتب زيارتهم لواشنطن، ولقاءات بعمان، بخلاف ماتقوم به السفارة الأمريكية ببغداد، والقنصلية بأربيل من إتصالات بالشيخ أحمد ابو ريشة القيادي بالصحوات وأكثر من 20 زعيم لعشائر الانبار، لنفاجأ على الأرض بأن تسجيل أسماء المتطوعين بدأ بالفعل فى نينوى والأنبار، وتخصص معسكر للتدريب بين أربيل والموصل، وجارى اتخاذ نفس الإجراءات فى ديالى وبابل، الولايات المتحدة تعهدت بالتسليح، ومكين طلب دعم السعودية، والإقبال بلغ في كركوك وحدها خمسون ألف بإشراف أنور العاصي، شيخ قبيلة العبيد، ومشاركتها بالمعارك ستبدأ فى الربيع المقبل.
والأكثر إثارة إتصالات الأجهزة الأمريكية مع “جيش رجال الطريقة النقشبندية”، أسسه عزت الدوري الرجل الثاني بعد صدام والأمين العام للبعث العراقى نهاية 2006، من رجال صدام، وركيزة حكمه؛ ضباط مخابرات وحرس جمهوري، وقيادات لحزب البعث، واعتمد على النظام العسكرى والإدارى للجيش، والتركيبة القبلية، والتمويل الذاتى المنتظم، ودعم اتباع الطريقة النقشبندية بالخارج، يتمركز بكركوك ونينوى وديالى، ويحظى بتعاطف ومصداقية السكان، ضم بقايا “القاعدة” و”حماس” العراقيتين، و”أنصار السنة”، و”جيش محمد”، حتى اصبح القوة الأكبر، وشارك داعش فى إسقاط الموصل.. الرهان الأمريكى عليه يستند لمبررات موضوعية.. انتماؤه للصوفية التى تعتبرها داعش “السلفية الجهادية” خارجة عن الملة، حتى انها هدمت كل المزارات والمقامات الصوفية بسوريا.. إعتقال داعش لبعض قياداته بتهمة الإنقلاب، آخرهم فاضل وسيف المشهدانى، واللواءات وعدالله حنوش، غانم إسماعيل، خالد جاسم، عبدالقادر العراقى، وإعدام العشرات لرفضهم مبايعة البغدادى.. ايمانه بالوطنية العراقية والقومية العربية التى تتعارض والدولة الإسلامية.. معارضته للطائفية التى تتناقض والتمييز الدينى بدولة داعش.. الإتصالات لم تنتهى، لكن جيش النقشبندية أحاط بها كوادره وتشكيلاته، مايؤكد جديتها، وأسامة النجيفى نائب رئيس الجمهورية وشقيقه أثيل محافظ نينوى وإياد علاوى يدعمون باتصالاتهم مع “المجلس العسكري لثوار العراق” و”كتائب ثورة العشرين” و”الجيش الإسلامي” و”جيش المجاهدين”.
***
الأزمة الراهنة فى العراق “طائفية” بامتياز، بدأت بعد سقوط صدام، وهيمنة الشيعة على الحكم، وتجاوزاتهم بمناطق السنة.. نشأت بيئة حاضنة وسعت نشاط “قاعدة العراق”.. لكن الإدارة الأمريكية استأصلتها بتشكيل كتائب “الصحوات” 2007.. بعد الإنسحاب الأمريكى سعى المالكى لتفكيكها واستهدف قادتها، أوقف رواتبهم، ولم ينفذ وعوده بدمجهم في المنظومة الأمنية، تصاعدت الإحتجاجات والإعتصامات فى الأنبار لعام متواصل، فقصف الفالوجة بالطائرات يناير 2014، فاتسعت البيئة الحاضنة، وانحاذت الصحوات للجماعات المسلحة، مامكن داعش من إجتياح الموصل يونية 2014، والإنتشار فى ستة محافظات؛ الأنبار، نينوى، صلاح الدين، كركوك، ديالى، مناطق حول بغداد.. السنة القاطنين بالمناطق الخاضعة لداعش رحبوا فى البداية، لكنهم لم يجدوا فروقاً بين الحياة فى ظل حكومة طائفية وولاية داعشية.. نفس التمييز والتعالى وان اختلفت مظاهره، وتعرض لنفس العسف وان اختلفت أسبابه، وإنكار لحقوق المواطنة وان اختلفت دوافعه، واحساس عميق بإفتقاد الشعور بالولاء للحكم رغم اختلافه المذهبى.
القضاء على داعش لم يعد هدفاً عربياً، وانما دولياً، بعد زبحها للمواطنين الأجانب، وتهديداتها للغرب، لذلك عادت الولايات المتحدة لإحياء “الصحوات”، بكل تجاوزات مسلحيها عقب انتهاء مهامهم، لذلك لم يعد أمام السلطات العراقية سوى المسارعة بتشريع قانون تشكيل “الحرس الوطني”، وتقديم ضمانات حقيقية لأبناء المحافظات السنية للمشاركة الفاعلة في القرار السياسي والأمني، محليا ووطنيا، وإختيار المتطوعين المتقدمين بطلبات شخصية، ورفض قوائم الأحزاب المجمعة، حتى لايتحول الحرس لجماعات متعارضة الولاءات، وتدريب وتسليح هذه القوات بالشكل الذي يناسب مهامها، وإخضاعها لسلطة الدولة، حتى تنتهى دراسة وإقرار التجنيد الإجبارى لمواجهة التحديات المقبلة.