جون كيرى وزير الخارجية الأمريكى يصل القاهرة أول أغسطس لبدء جولة جديدة من الحوار الإستراتيجى بين مصر والولايات المتحدة.. التطور التاريخى للعلاقة، ووضع هذا الحوار فى إطارها، يعكس دلالاته على المرحلة الراهنة، والمقبلة.. نكسة يونية 1967 كانت مبرراً لقطع العلاقات الدبلوماسية مع واشنطن، ونصر أكتوبر 1973 كان مناسبة لإستئنافها.. السادات أدرك تأثير العلاقة مع أمريكا على أمن مصر القومى، وبالغ فى تقديره بأن 99% من أوراق اللعبة فى يدها، فطلب من كيسنجر فى نوفمبر 1973 بدء حوار إستراتيجى، لإيجاد إطار مؤسسي لتعاون أشمل، يتجاوز حدود العلاقات الثنائية، ليشمل المصالح الإقليمية والدولية للجانبين، مع تحديد مسبق لنقاط الخلاف وتحييدها، وتنمية وتعضيد نقاط الاتفاق.
الجولة الأولى من الحوار لم تبدأ إلا فى 1988/89، لأن وضع السياسة الخارجية الأمريكية عملية بالغة التعقيد، يشارك فيها أطراف ومصالح متعددة، الجولة الثانية 1991 تم فى إطارها المشاركة فى حرب الخليج، وإلغاء بوش الأب ديون مصر العسكرية، والثالثة 1998/99.. انتكس الحوار بوصول بوش الإبن للحكم 2001، وإعلانه رفض مبدأ عدم التدخل فى الشئون الداخلية للدول، حال تأثيرها على الأمن القومى الأمريكى.. تولى اوباما الحكم جلب معه آمالاً، وبدات فى فبراير 2009 محاولة جديدة لإستئناف الحوار، لكنها سرعان ماتبددت، لأن اوباما جاء بتصور سياسى يعتمد على إجراء تغييرات فى الكيانات السياسية وبنية السلطة ومنهج الحكم بدول المنطقة.. حتى انه كان أشد عوامل الضغط على مبارك للإستقالة فى فبراير 2011، ضمن ترتيبات انتهت بوصول الإخوان للسلطة.
الحوار المقبل شامل، يضم متخصصين في مختلف المجالات الاقتصادية والسياسية والامنية والتعليمية.. سعت مصر لتوفير فرص النجاح له بلقاء وزير الخارجية مع سوزان رايس مستشارة أوباما للأمن القومي بواشنطن فبراير الماضى، ووافقت الرئاسة على منحة تنموية أمريكية بحوالى 20 مليون جنيه، «لمشاريع خاصة بالمجتمع المدنى»، لتؤكد الشعور بالثقة، والرغبة فى التعاون، والحرص على تجاوز الماضى.. ثلاثة موضوعات رئيسية تتصدر أجندة الحوار.. الأول: أمن المنطقة، ومواجهة الإرهاب المتزايد، وترتيبات تجفيف منابع تمويله، بما فيها الموقف الأمريكى من الإخوان.. الثانى: التجارة حيث من المنتظر ان يعرض الجانب الأمريكى حزمة إجراءات لمساعدة الصادرات المصرية علي النفاذ للأسواق الأمريكية، وبحث زيادة موارد مصر من خدمات التجارة، بعد إفتتاح القناة الجديدة “الخدمات الملاحية- خدمات الحاويات”.. الثالث: الإستثمار ويكفيه بحث إجراءات تفعيل الإلتزامات المتبادلة والمعلنه في مؤتمر شرم الشيخ.. وهناك نقاط أخرى تستحق الإهتمام..
الأولى: ضرورة تجنب اختزال نتائج الحوار فى بعض المنح والتسهيلات.. عقب توقيع إتفاقية السلام 1979 قرر كارتر تقديم دعم اقتصادى وعسكرى سنوى لمصر، تحول منذ 1982 إلى منحة لا ترد بواقع 2.1 مليار دولار.. 815 مليون منحة اقتصادية تقلصت تدريجياً حتى وصلت الى 250 مليون عام 2011، و1.3 مليار منحة عسكرية ظلت ثابتة لوجود لوبى امريكى يدافع عنها، هذه المنح تحولت الى أدوات ضغط على مصر.. نهاية 2007 لوح الكونجرس بتعليقها مالم تغلق مصر أنفاق التهريب بين قطاع غزة وسيناء!!.. وتكرر التهديد خلال ازمة تمويل الجمعيات الأهلية بمصر فبراير 2012، وذلك قبل تجميدها بعد تدهور العلاقات نتيجة للإطاحة بالإخوان 30 يونية 2013، وتعليق شحن طائرات “F16” وأباتشى ودبابات “M1″، ولولا أن نقاشات الكونجرس تغيرت لصالح مصر اواخر 2013، وتعرض أوباما لعاصفة هجومية لإتخاذه ذلك الموقف دون استشارة الكونجرس، ماإضطره بداية 2014 لإستئناف الدعم، وإيفاد كيرى للقاهرة فى يونية 2014، معلناً إستعداد بلاده لبدء الحوار الإستراتيجى مع الدولة المصرية.
الثانية: التأكيد على مبدأ التعامل الرسمى بين المؤسسات السيادية؛ آن باترسون أدارت العلاقة بين الدولتين، بإتصالات مباشرة مع قادة الإخوان، رغم ان معظمهم لايشغلون مناصب رسمية او حزبية، وتحولت مقرات الجماعة، وحزب الحرية والعدالة، ومنازل القادة، لمقرات رسمية، بديلة لوزارة الخارجية والمؤسسات الرسمية، بل أن كيرى نفسه ذهب لمكتب خيرت الشاطر لمقابلته!!.
الثالثة: توضيح موقف مصر من الإتفاق النووى الإيرانى، الذى لعبت واشنطن الدور الرئيسى فى التوصل اليه.. الإتفاق يعبر عن ممارسة أمريكا والقوى الكبرى لمسئوليتهم الدولية تجاه حظر الإنتشار النووى، ويعكس نضج ايران السياسى عبر جلسات التفاوض الطويلة، الا انه ينبغى التحذير من ربطه بأية تسويات إقليمية سرية، أو وعود بالتغاضى عن التمدد الإيرانى ببعض دول المنطقة.
الرابعة: ضرورة تفهم رؤية واشنطن فيما يتعلق بمراجعة هيكل المنحة العسكرية لمصر، وهى العملية التى بدأت نهاية 2007، وحاولت فى أعقابها إقناع مصر بالتوقف عن طلب المزيد من الأسلحة الثقيلة “مقاتلات F16- دبابات Abrams”، والإهتمام بدعم قدرة الجيش على تأمين الحدود، ومواجهة الإرهاب، البعض فسر ذلك بأنه تحجيم لقوة مصر الضاربة الإستراتيجية، قبل ان تتحول لمصدر تهديد لأمن إسرائيل، وهى رؤية ربما كانت صحيحة، لكنها تفتقد للوجه الآخر من الحقيقة، المتعلق بتقدير أمريكا بأن نظام مبارك كان آنذاك أحد حلفائها الرئيسيين، وينبغى تعزيز قدرته على التعامل مع ما سيترتب على سياسة “الفوضى الخلاقة” -التى بدأ تنفيذها 2006- من نتائج، أهمها إنتشار الإرهاب بالمنطقة.. ولاشك ان مصر حالياً أحوج ماتكون لنشر شبكات المراقبة والإنذار الإلكترونى على إمتداد حدوها، أكثر من الطائرات والدبابات، خاصة انها قد وقعت بالفعل خلال العام الماضى أربعة صفقات سلاح كبرى مع روسيا وفرنسا والمانيا والصين، تمثل الطائرات قاسماً مشتركاً فيها.
الخامسة: التسهيلات العسكرية الإستراتيجية كانت وستظل أحد الإهتمامات الرئيسية لأمريكا.. عبور بوارجها الحربية للقناة، مرور طائراتها فى المجال الجوى، وإعفاء سفنها وغواصاتها النووية من شرط الإبلاغ قبل 30 يوما من موعد مرورها بالقناة، تلك جميعها وفرتها مصر فى إطار التعاون الإستراتيجى.. مصادر عسكرية أمريكية أكدت لموقع «ديفينس وان» أن مصر رفضت مؤخراً طلباً بإقامة قاعدة عسكرية بالصحراء الغربية لتنطلق منها طائرات «درونز» بدون طيار، لإستهداف الجماعات الإرهابية فى ليبيا، هذا الموقف –إن صح- يعكس تشدداً قد لايتناسب مع ضراوة الحرب التى نخوضها ضد الإرهاب، ماقد يفرض طرح بدائل تسمح بالحفاظ على ثوابتنا الوطنية، دون حرماننا من الإستفادة مما أظهرته طلعات الـ«درونز» من نتائج بالغة الإيجابية، آخرها قتل التونسى سيف الله بن حسين زعيم أنصار الشريعة بليبيا، ومختار بلمختار أحد زعماء التطرف بمنطقة الساحل والصحراء.. البدائل عديدة، أبرزها انشاء قاعدة وطنية بمستشارين وخبراء أمريكيين، أو حتى قاعدة مشتركة تكون لمصر حقوق السيادة عليها.. ولنتذكر ان وجود عشرات الآلاف من الخبراء الروس فى الجيش المصرى لم يمس السيادة الوطنية، ولم يحول دون ترحيلهم، بقرار وطنى، خلال ايام قليلة.. نتائج نشاط مثل هذه القاعدة المتطورة، وحجم الخبرات التى ستكتسبها مصر فى مجال التنسيق بين عمليات الرصد الجوى، ومعلومات المخابرات، وصور الأقمار الصناعية، ستحقق فوائد كبرى لمصر فى حربها ضد الإرهاب، مايفرض مراجعة الموقف بشانها.