«داعش» تستعد لخوض معركتين مصيريتين؛ الرقة عاصمة «التنظيم» بسوريا، والموصل عاصمة «الدولة» بالعراق، وهى تدرك إستحالة كسبهما، لأن إغلاق تركيا لحدودها، وتفاهماتها مع روسيا، يعنى توقف الدعم الخارجى، التنظيم يتعرض لغارات جوية فعالة، تمهد لهجمات أرضية من ثلاثة جيوش: القوات السورية مدعومة بروسيا وإيران وحزب الله، التحالف العربي الكردي مدعوماً بالتحالف الدولي، قوات المعارضة السورية، الدينية المعتدلة والعلمانية، والثلاثة إكتسبوا خبرة إبطال تكتيكات «داعش» القتالية، وأضحوا قادرين على تصفية إنتحارييها قبل الوصول لأهدافهم.
أوباما حدد أواخر 2016 موعداً لمعركة تحرير الموصل، عزز مستشاريه العسكريين وقواته الخاصة بالعراق لتقارب 5000 عنصر، قدم 2.1 مليار دولار دعماً عسكرياً للحكومة، و415 مليون للبشمرجة الكردية، ودفع بـ250 من عناصر المارينز إضافيين لسوريا.. وزراء دفاع دول التحالف اجتمعوا مرتين، الأولى بواشنطن 20/21 يوليو، والثانية بقاعدة أندروز الجوية نهاية يوليو، لتنسيق خوض معركتى الموصل والرقة متزامنتين، وعزل المدينتين عن بعضهما، لقطع الإمدادات والدعم المتبادل، هجوم قوات سوريا الديمقراطية على جنوب الرقة، أثناء تحرير العراق للفلوجة، تم بتفاهمات مع أمريكا وروسيا والنظام، لمنع داعش من الإنسحاب تحت ضغط المعارك لمعاقلها فى حلب، فى تجربة عملية لتنسيق المعارك على الجبهتين، فرنسا تنسق مع واشنطن لبدء حملة قوية على أهداف التنظيم بالموصل، وقدمت للعراق أسلحة ثقيلة بطواقم تشغيلها على الجبهة، وأعادت الحاملة «شارل ديجول» لإستهداف مواقع التنظيم.
المعارك الفاصلة بالموصل والرقة وحلب تواجه أربعة إشكاليات: الأولى انها ستجبر ملايين المدنيين على النزوح، مما يفرض الإستعداد لأكبر عمليات الدفاع المدنى والإيواء والرعاية الصحية فى التاريخ.. الثانية أنها ينبغى أن تستهدف إما القضاء على كافة عناصر «داعش» بالمدن أو إيقاعهم أسرى، على نحو ماتم مع «القاعدة» فى الأنبار 2006/2008، حتى ينتهى التهديد للمدن والقرى، الثالثة ضرورة الإستعداد المسبق للجولة التالية من معارك التفجير الإنتقامية ضد المدن والأسواق العامة وتجمعات السكان، الرابعة والأهم معالجة السباق الطائفى على المعارك، لأن المنتصر سيفاوض على النفوذ، وربما الأرض، مايفسر إصرار الحشد الشعبى على المشاركة فى كل معارك العراق، ومشاركة الأكراد فى معارك شمال وشرق سوريا، لكن الفارق بينهما العقلانية والهدف، شيعة العراق بتحريض ايرانى يسعون لإبتلاع العراق، أما الأكراد فرغم تشكل قواتهم فى الأساس لتحرير الرقة، لكنها اتجهت للحسكة، وريف حلب الشرقى والشمالى ومنبج، بعد إدراكها رفض عرب المحافظة لهم، وتفضيلهم إستمرار «داعش» عن تحررهم على أيدى الأكراد.. شيعة العراق يستهدفون الهيمنة، والأكراد يسعون لتأسيس كيان ديموجرافى متجانس.
بعد سقوط «داعش» لن يقدَّر للعراق وسوريا الإستقرار والإستمرار كدول موحدة دون تحقيق التوازن الطائفى، والتصدى للإصلاح، ومواجهة الفساد، الأكراد أميل للتقسيم، أو على الأقل إقامة كونفيدرالية مع كيانات سنية وشيعة متكافئة.. السنة الذين شكلوا الأغلبية الساحقة من الجيش العراقى، وانضموا لداعش بعد حله، وكانوا أقلية بالجيش السورى، وانشقوا والتحقوا بالتنظيمات المعارضة بعد الثورة، لن يعودوا للإندماج بمؤسسات الدولة دون إعادة هيكلتها لإستيعاب كافة الطوائف على أسس متساوية، أما الشيعة فإيران تدفعهم للمغالبة، والإسئثار بالسلطة، وهو نذير شؤم ينبغى التحسب لتداعياته، والحرص على تجنبها، لو تم ترجمة هزيمة «داعش» على انها إنتصار لهم على تطرف السنة، فسوف تكون أقرب لهزيمة طالبان الممثلة للبشتون «يشكلون 40% من سكان أفغانستان»، والتى أجبرت الغرب على مفاوضتها للمشاركة فى السلطة.. وهزيمة «داعش» بكل مكوناتها السنية «بعثيين، عسكريين، متطوعين…»، ستكون مجرد انتقال من المدن للصحراء، لشن هجمات إنتقامية، والإعداد لجولات جديدة.. والحقيقة ان مراعاة الظروف الإقتصادية تفرض تجنب التقسيم، لأن الوضع الإقتصادى بالأقاليم الكردية بالغ التدهور، ولولا ظروف الحرب لما صمت المواطنون على معاناتهم، حل المشاكل المعلقة مع الدولة ينبغى ان ينطلق من قاعدة بناءة، تتجاوز الرصيد المُر، وتستشرف آمال المستقبل، وتتشارك الثروة.. صلاح الدين الأيوبى كان قائداً لتحرير المنطقة من المتاجرين بالصليب، لكنه لم يفكر فى تشييد دولة كردية منفصلة، ولم يؤصل للبُغض الطائفى.
التطلع بنظرة طائر للأوضاع الإستراتيجية للمنطقة، يذكرنا بأن تشكيل التنظيمات الإرهابية كان جزءاً من الإستراتيجية الأمريكية.. «القاعدة» لطرد الإتحاد السوفيتى من افغانستان، وتبرير تواجدهم بالعراق، ورأس حربة ضد النظام السورى.. «داعش» أداة تقسيم بعض دول المنطقة،خاصة سوريا والعراق -مركزى التهديد الرئيسيين لإسرائيل- وإعادة ترسيم الحدود، وتبرير إنشاء كيان سياسى للأكراد.. تحققت معظم الأهداف على الأرض، لكن الإتفاق النووى مع إيران بقدر ما أمَّن حلفاء أمريكا بالمنطقة ضد مخاطر النووى، بقدر ما أدخلها كشريك رئيسى فى إعادة هيكلة مناطق النفوذ بها.. «داعش» بالنسبة لإيران مبرر لدعم نفوذها بالعراق وسوريا، وبمجرد تثبيته عليها ان ترحل.. التفاهم الروسى الأمريكى يحدد مستقبل الحرب، ومابعدها، أمريكا تلمح لفكرة التقسيم، وروسيا تعتبر الفيدرالية بديل مقبول، وتواجدها بالمنطقة يتصاعد بقوة وبسرعة، وتتفق مع ايران فى حتمية رحيل «داعش»، العداء بين إسرائيل وإيران يفسر تأكيد اللواء هرتسى هليفى رئيس المخابرات الاسرائيلية ان على بلاده الحيلولة دون إنتهاء الوضع فى سوريا بهزيمة «داعش»، لأن تراجع الدور الأمريكى يترك إسرائيل وحدها فى مواجهة حزب الله وإيران، ويهدد بتسلل عناصره للأردن، الذى تعتبره اسرائيل أحد عوامل استقرار البيئة الإقليمية والأمنية المحيطة، ويساهم فى ترتيب الأوضاع بالمنطقة، نظراً لعلاقاته العميقة مع السنة غربى العراق وجنوبى سوريا، وتوازن مصالحه مع أمريكا والغرب وروسيا.. أمريكا إستبعدت تركيا من المشاركة فى إعادة ترتيب أوضاع المنطقة، لإنتهاء دورها كطرف داعم لـ«داعش»، مما يفسر مشاركتها فى خلخلة الإستقرار الداخلى للنظام التركى، وتفجير أزماته مع الجيش والأكراد، لينشغل بنفسه، حتى تتمكن من تسوية أزمات المنطقة بطريقتها، هرولة تركيا على روسيا زعزع دعمها لإنشاء دولة كردية بسوريا، وشجع سوريا على مواجهتهم صراحة، وأفشل إستراتيجية السعودية تجاه الأسد، وتركها فى عُزلة، بعد فقدانها لحليفها الإقليمى الرئيسى، وفشل سعى وزير خارجيتها لشراء تأييد موسكو، وأصبح إعتمادها على مصر، وإنفتاحها على إسرائيل إختياراً مفروضاً لمواجهة إيران.. ولبنان ستظل هدفاً تسعى «داعش» لزعزعة الإستقرار فيه، رداً على دور حزب الله فى سوريا.. أمريكا تتلاعب بالتوازنات الإستراتيجية بالمنطقة، وروسيا تسعى لتوسيع مناطق نفوذها، ولم يعد هناك من صمامات أمن لأوطاننا سوى جيوشنا الوطنية، وللمنطقة سوى إحياء «القوة العربية المشتركة».. حليفنا السعودى، هل وصلتك الرسالة؟!