أطلق عليها البعض ‘‘قمة الكلاماتا’’ تعبيراً عن عدم التفاؤل بنتائجها، لكنها فى الحقيقة مرشحة لأن تكون ‘‘قمة الأوليمب’’، أعلى جبال الدول الثلاث، تعقد بدعوة من ‘‘زيوس’’، كبير آلهة الإغريق، فى ضيافة ‘‘آمون رع’’.. أكتب عن قمة 8 نوفمبر بالقاهرة بين الرئيس السيسي، ورئيس قبرص ‘‘نيكوس أناستازيادِس’’، ورئيس اليونان ‘‘كارولوس بابولياس’’، للتعاون الإستراتيجى فى مجال الطاقة، وخاصة الغاز الطبيعي.. الترتيب لها، نموذج لحسن اختيار الإجراء، والتوقيت، والشريك.
لعلاقات الدولتين بمصر وجهاً مشرقاً، وآخر براجماتى.. الدولتين سفراء لمصر بالإتحاد الأوروبى، وزير الخارجية القبرصى أول وزير خارجية فى العالم يزور مصر بعد ثورة 30 يونية ‘‘3سبتمبر 2013’’، والرئيس القبرصى أول زعماء الاتحاد الأوروبي يزورها رسميا ‘‘ديسمبر 2013’’، وزير الدفاع اليونانى زارها ابريل 2014.. وفى مراسم تنصيب السيسى يونية 2014 شارك الرئيس القبرصى ووزير خارجية اليونان، الرؤساء ووزراء الخارجية التقوا فى سبتمبر بنيويورك، اما الخبراء فلقاءاتهم لاتنقطع ضمن آلية المشاورات الثلاثية.. عدلى منصور زار اثينا فى يناير 2014، والسيسى وعد بزيارة نيقوسيا هذا العام.
العلاقات الثلاثية ترتكز على محورين رئيسيين.. تحجيم الأطماع التركية بالمنطقة، والتعاون فى مجال الطاقة خاصة مايتعلق باقتسام واستغلال غاز المنطقة الإقتصادية المشتركة، وهو واحد من اعقد الملفات الوطنية، وربما يستحق التفصيل..
عام 1999 منحت مصر شركة «رويال دتش شل» امتياز تنقيب بحري (41,500 كم2) بشمال شرق المتوسط «نيميد»، عام 2004 اعلنت الشركة اكتشاف احتياطيات للغاز الطبيعى فى بئرين قدرت احتياطياتها بتريليون قدم3، واكدت ان تحويلها لحقول منتجة قد يستغرق أربعة أعوام، إطمأنت مصر ورسّمَت حدودها البحرية مع قبرص بالمنطقة الإقتصادية 2003، بدون تحديد لنقطة البداية من الشرق مع إسرائيل، التى لم توقع على اتفاقية الأمم المتحدة لقانون أعالى البحار.
بداية 2010 اعلنت هيئة المساحة الجيولوجية الامريكية، وهى جهة علمية محايدة، اكتشاف مساحة تقدر بـ83,000 كم2 من النفط والغاز بالحوض الرسوبى شرق المتوسط، واشارت النتائج الاولية الى وجود احتياطى غاز يقدر بـ122 -220 تريليون قدم مكعب -يخص مصر منها قرابة 115 تريليون قدم3– و1,7 -3,7 مليار برميل نفط، بقيمة إجمالية 700 مليار دولار، قابلة للزيادة، بعدها مباشرة فى ديسمبر 2010 وقعت قبرص مع إسرائيل إتفاقية تعاون وتنسيق للتنقيب واستخراج النفط والغاز، واتفاق ترسيم حدود المنطقة الاقتصادية الخالصة بينهما، الإتفاق الأخير أفسد إتفاق الترسيم بين قبرص ومصر 2003، لأنه تم دون مشاورة مصر كما تقضى الإتفاقية.. وجعل المياه الإسرائيلية حاجزاً بين مصر وقبرص شمال دمياط ‘‘وفقاً للخرائط اليونانية’’.
وفى الوقت الذى أعلنت فيه قبرص اكتشاف حقل ‘‘أفروديت’’ للغاز [داخل منطقة امتياز ‘‘نيميد’’ وفقاً للخرائط القبرصية] باحتياطيات مبدئية 27 تريليون قدم3 بقيمة 120 مليار دولار ‘‘يناير 2011’’، انسحبت شركة شل من منطقة “نيميد”، بحجة إنعدام الجدوى الاقتصادية قياسا لأسعار الشراء المحددة باتفاقيتها مع الحكومة المصرية ‘‘مارس 2011’’!!
بنيامين نتنياهو زار قبرص فبراير 2012 للتعاون فى التنقيب عن الغاز والتنسيق الأمنى، وفى أغسطس 2012 وقع شيمون بيريز اتفاقاً مع اليونان يمهد للقاء قمة إسرائيلية- قبرصية- يونانية للإتفاق على استراتيجيات تصدير الغاز لأوروبا، قبرص وقعت مذكرة تفاهم مع مجموعة إسرائيلية- أمريكية لبناء مصنع للغاز المسال ‘‘يونيو 2013’’، ووقعت مع اسرائيل اتفاقية لتبادل وحماية المعلومات السرية عن الغاز المكتشف بالمنطقة المشتركة أبريل 2014.
خلال العامين الأخيرين، تدفقت على قبرص استثمارات ضخمة لليهود الروس المتهمين بإدارة شبكات غسيل أموال، وتطور التنسيق الأمنى بدعوى حماية منشآت الطاقة، وضغطت اسرائيل لإجبار أعداد كبيرة من اللاجئين الفلسطينيين على مغادرة قبرص، كما رصدت620 مليون دولار لإنشاء شبكة دفاعية ‘‘الدرع’’ حول منصات الغاز، وتجهيز اربعة سفن حربية مجهزة بنظام مضاد للصواريخ، وطائرات استطلاع، وزوارق دورية.
***
مصر وقبرص وقعتا اتفاقية تقاسم مكامن الطاقة ديسمبر 2013، ويكثفان مشاورات الخبراء لتطوير التعاون فى مجال التنقيب عن الغاز واستكشاف حقول البترول، وتسييل الغاز بالمصانع المصرية بدمياط وإدكو، بعد اسنادهما امتيازات التنقيب لشركة “إيني-كوجاز” الإيطالية، ومع قرب التوصل لإتفاقات هامة ستعلنها ‘‘قمة الأوليمب’’، دفعت تركيا بسفينة الأبحاث “برباروس” للمنطقة الإقتصادية القبرصية تحت حماية الأسطول بحجة إجراء مسح سيزمي بالمنطقة سيستمر حتى نهاية العام!!
اليونان استدعت السفير التركى للإحتجاج، وقبرص اوقفت مفاوضات السلام، وبدأت مناورات بحرية مع إسرائيل بالمنطقة.. حالة من التصعيد الخطير لاتتحملها حساسية الأوضاع بالمنطقة، بما يفرض قدراً من التأمل والتعقل، ومحاولة الفهم، لنزع الفتيل…
* منذ منتصف السبعينات والمخابرات الأمريكية تعتبر المعلومات المتعلقة بإحتياطيات غاز الدلتا وامتدادها فى الجرف القارى شرق المتوسط من الملفات المحظورة، تجنباً لإنعكاساته على التوازن الإستراتيجى بالمنطقة.. التفوق الإسرائيلى الراهن، والسعى لإنهاء اعتماد اوروبا على الغاز الروسى، أدى لرفع الحظر، لصالح إسرائيل وقبرص، قدر الإمكان.
* أمريكا تسعى لإنشاء حلف إقليمى للطاقة يجمع اسرائيل وقبرص ومصر وتركيا واليونان، كل فى حدود دوره، ولعل ذلك هو الدافع لزيارة جون بايدن لشطرى قبرص مايو الماضى، وهى أول زيارة رسمية لمسئول أمريكى منذ بداية الأزمة 1974، لإنهاء الصراع، والتمهيد للترتيبات الاقتصادية والأمنية بالمنطقة.
* روسيا حصلت نوفمبر 2013 على امتياز التنقيب بالمياه السورية، بشكل يمنع تنفيذ خط أنابيب لتصدير الغاز لأوروبا عبر تركيا، كما ان القبارصة اليونانيين يدركون خطورة وضع مثل هذا الخط تحت رحمة أنقرة، ومن ثم فإن مصر اصبحت من البدائل الرئيسية المطروحة لتصديره بضخ استثمارات جديدة لمضاعفة الطاقة الإنتاجية لتسييل الغاز.
* عرض البحر الإقليمى لقبرص لايتجاوز خطي طول على الخرائط المعتمدة، اما مصر فيتجاوز عرض بحرها الإقليمي ١١ خط، الفارق بين الإثنين هى مساحات ينبغى ترسيمها مع تركيا.. القياس من نقطة المنتصف يعطى مصر عمقا للمنطقة الإقتصادية يفوق نظيرتها مع قبرص، ويمد المنطقة المصرية لتقطع الإمتداد الواصل بين اليونان وقبرص، على النحو الذى يدخلنا شركاء فى اى مشاريع لمد أنابيب لأوروبا عبر اليونان.
* ينبغى كذلك ترسيم الحدود مع اسرائيل، دون إغفال حقوق الدولة الفلسطينية.. عرضنا للترسيم يعبر عن حسن النوايا قبل تحريك دعاوى تعويض عما تم استنزافه، امام المحكمة الدولية، والإستناد لبند الامتداد الاقليمى من المادة 31 بقانون التحكيم الدولى، التى تقضى باعادة رسم الحدود بين الدول المتعارضة حال عدم الإتفاق الودى.
* خلال زيارة عدلى منصور لأثينا ابريل الماضى اقترحت اليونان تجديد إتفاق التعاون العسكري الذى انتهى عام 2007 ولم يجدد، على ان يشمل الأمن البحرى، والدفاع الجوى، والتصنيع الحربى، التعاون الأخير مطلوب، اما الأول والثانى فيحققان تلامساً مشبوهاً بين مصر وحلف الناتو، الذى تنتمى له اليونان، كمايطرح احتمالات استدراجنا لصدام مع تركيا، وهو ماينبغى تجنبه.
* التوتر الراهن بين أطراف المنطقة الإقتصادية شرق المتوسط يعوق الإستفادة من ثرواتها، ويطرح احتمالات المواجهات المسلحة، الأمر الذى يفرض مبادرة مصر بالدعوة لمؤتمر دولى تحت اشراف الأمم المتحدة، لتسوية مشاكل ترسيم الحدود بين كافة دولها، وفقاً لما جاء باتفاقية أعالى البحار، و قانون التحكيم الدولي.
إكتشافات الغاز بالمنطقة تشكل تحولاً استراتيجياً لأوضاع دولها، إقتصادياً ودولياً، وينبغى ان نحرص على الايستشعر ابناؤنا وأحفادنا أننا قد تقاعسنا وأهدرنا حقوقهم.
gtaha2007@gmail.com