استقالة المشير السيسى بعد ان خدم قرابة 37 عاماً بالجيش هى بالتأكيد أصعب قرارات حياته، الخدمة بالقوات المسلحة ليست وظيفة، مهما طالت المدة، وارتقت الرتبة، وانما تكريس للذات دفاعاً عن وطن.. ارتداء البدلة العسكرية كل تلك السنوات يصبغ البشرة باللون الكاكى، المعبر عن الزهد والتضحية.. الإستقالة لاتعكس تطلعه لمنصب أرقى، وإلا لما قام بنفسه فى اغسطس 2013 بتعديل يمين الطاعة الذى يقسمه الضباط ليقتصر على الولاء للوطن وحزف “الإخلاص لرئيس الجمهورية”، ولما قام بنفسه فى 26 و27 فبراير2014 بتقديم اربعة قوانين (انشاء مجلس الأمن القومى، القيادة والسيطرة على شئون الدفاع، المجلس الأعلى للقوات المسلحة، مجلس الدفاع الوطنى) استهدفت تحصين وحماية الجيش -الذى يغادره المشير- وتقييد صلاحيات منصب الرئيس، الذى يدفعه الشعب لشغله.
استقالة المشير استجابة لإرادة شعب رآه أجدر من يؤتمن على أمن الوطن ومستقبله.. ثقة انطلقت من مواقف ومواجهات خاضها دفاعاً عن الأمن القومى خلال حكم الإخوان، ومؤشرات عكست مفهومه لعدالة إجتماعية بدت ملامحها بمجرد الإطاحة بهم.. ولنبدأ بالمواجهات..
اولاً: حظر التملك والتصرف العقارى بالمناطق الإستراتيجية
بعد ستة شهور من تولى مرسى الحكم، نهاية2012 تحولت قرى الشريط الحدودى مع اسرائيل الى نقاط إنطلاق لعمليات التهريب.. اسلحة، مخدرات، مهاجرين، تجارة أعضاء.. قرابة 10 آلاف أسرة تمركزت بالمنطقة.. واقبال محموم على شراء الأراضى، حتى وصل عدد الملاك الى120 الف.
عدد اللاجئين الفلسطينيين بالعريش ورفح والشيخ زويد ارتفع لأكثر من 35 الف.. وطرحت حماس مشروع إقامة منطقة حرة داخل حدود مصر.. مرسى منح الجنسية لـ50 الف حمساوى، وأصدر مرسوم بالقانون 14لتنمية سيناء، لائحته التنفيذية959 لسنة2012 تعطيه صلاحيات منح حق الإنتفاع والتملك لأبناء الدول العربية، وتجيز له معاملة العرب نفس معاملة المصريين.. لتقنين لتملك الفلسطينيين للأراضى والمشاريع بسيناء.
ديسمبر2012 أصدر السيسى القرار203 لسنة2012 بحظر تملك أوحق انتفاع أوإيجار أوإجراء أى نوع من التصرفات فى الأراضى والعقارات الموجودة بالمناطق الاستراتيجية، والمتاخمة للحدود الشرقية، بمسافة 5 كيلومترات غربا، وقصر حق التملك بسيناء على الأشخاص الطبيعيين حاملى الجنسية المصرية ومن أبوين مصريين وللأشخاص الاعتبارية المصرية المملوك رأسمالها بالكامل لمصريين حاملى الجنسية المصرية وحدها دون غيرها من الجنسيات.
ضغط مرسى ومكتب الإرشاد وعدد من رجال الأعمال لإلغاء القرار، وتحريض البدو على الجيش، الا ان السيسى نجح فى يناير2013 بالتعاون مع شيوخ القبائل فى احتواء الموقف.
ثانياً: التصدى لعملية توطين الإرهاب الدولى بسيناء
تنفيذاً لإتفاق الإخوان مع الولايات المتحدة على تجميع عناصر وجماعات ومنظمات الإرهاب الدولى فى سيناء، شجعوا الجهاديين المصريين بالخارج على العودة، وسمحوا بدخول المتطرفين العرب والأجانب، كما أفرج مرسى عن الإرهابيين، ومهربى الأسلحة والمخدرات، وتمركزوا فى سيناء.
بعض القيادات السلفية بادرت بالتوسط بين السلفية الجهادية والدولة، وأعلن برهامى منتصف ابريل2013 التوصل لاتفاق على تسليم تلك الجماعات أنفسهم وأسلحتهم للدولة بشرط حسن المعاملة.. عرض الاتفاق على الرئاسة فأهملته قائلة:“إحنا هنتصرف”!!
بدأ تحدى الإرهاب للجيش بـ“مذبحة رفح” 18أغسطس2012 راح ضحيتها 16 جندى.. تم تحديد هوية المتهمين القادمين من غزة، وطلب السيسى انذار حماس لتسليمهم، لكن مرسى رفض ووجهه للتفاوض معها، لم يقبل السيسى وبدأ “العملية نسر” لتطهير سيناء وإغلاق الأنفاق، فتدخلت الرئاسة واوقفتها، مكررة توجيهها، كرر رفضة، وأغرق الأنفاق بالصرف الصحى، كما خطط فى نوفمبر2012 لإستئناف “العملية نسر” لكن مرسى منعه قبل ساعات من بدء العمليات.
فى16 مايو2013 اختطف الإرهابيون 6 عسكريين، حاصرهم الجيش ووضع خطة تحريرهم، لكن مرسى تمسك بحل يضمن “سلامة الخاطفين والمخطوفين”!! وأدار مفاوضات مريبة استغرقت اسبوعاً، انتهت بإطلاق سراح المحتجزين، مقابل الإفراج عن 24 من المحكومين بالإعدام والمؤبد فى قضايا ارهاب.. وشكل لجنة قضائية للعفو عنهم.. لكن السيسى اعترض، وكلف قائد الجيش الثانى بسرعة تنفيذ عملية للتأديب ورد الإعتبار.. حاول مرسى التخلص منه.. أوعز للطهطاوى وشيخة بإقناع اللواء احمد وصفى بتولى وزارة الدفاع، كما حاولا مع قائد الحرس الجمهورى، لكن وحدة القيادة أجهضت محاولاتهم.
ثالثاً: التصدى لفصل اقليم قناة السويس عن الدولة
لوح مرسى خلال حملتة الإنتخابية بجلب 200مليار دولار استثمارات فور وصوله للحكم، وذلك بعد الإتفاق مع قطر على مشروع اقليم قناة السويس، الذى يحول القناة إلى مايشبه الملكية الخاصة لأعضاء الهيئة العامة لتنمية الإقليم “جميعهم من الإخوان”، كما يمنح رئيس الجمهورية سلطات مطلقة على الإقليم بعيدًا عن الرقابة، حظى المشروع بموافقة الولايات المتحدة واسرائيل لأنه يفصل سيناء عن الوادى ويبعد الجيش نهائياً عن الحدود، ويفتت مصر، وينهى دورها السياسى بالمنطقة.
شكل السيسى لجاناً لدراسة المشروع، وأعلن منتصف مايو 2013 ان الأوضاع الراهنة لاتسمح بتنفيذه، والإكتفاء باستكمال مشروعات تنمية شرق بورسعيد وشمال غرب خليج السويس والإسماعيلية، مع وضع عدد من الضوابط والمحددات:
* يتم التنفيذ تحت إشراف مؤسسات الدولة “الجيش – القضاء…” والغاء الصلاحيات المطلقة للرئيس.
* ضرورة موافقة الجيش والمخابرات والأمن الوطنى على الشركات المستثمرة.
* تقام جميع المشروعات بنظام حق الإنتفاع، ولاتقل مشاركة رأس المال المصرى فى الشركات المساهمة عن 55%.
* حظر تسلل الأجانب للمشروع ابان تداول الأسهم والأنصبة بالبورصة وطرح الأوراق المالية والإكتتاب العام والخاص.
رابعاً: إحباط محاولة تنازل الإخوان عن حلايب وشلاتين
ذهب مرسى للسودان فى4 ابريل2013 لحثها على المشاركة فى مشروع دولة الخلافة، خروجاً من ازمة الإنحسار الإقليمى، بعد انتهاء تجربته لإقامة الدولة الإسلامية بانفصال الجنوب، وتمرد دارفور.. وعده بـ“دراسة تسليم السيادة الإدارية على حلايب وشلاتين“ ليغريه على القبول، وسارع “الحرية والعدالة” بتعديل الخرائط ليخرج المنطقة من حدود مصر الدولية وفق اتفاق1899 ويضمها للسودان.
خلال اجتماع مرسى بالمجلس الأعلى للقوات المسلحة11 ابريل2013، حذره السيسى من ان الجيش لن يسمح بأى تفريط او تهاون فى التراب الوطنى، ولن يقبل أى تعديل فى حدودنا الدولية، مطالباً بتعيين حاكم عسكرى لحلايب وشلاتين.. ثم اوفد قائد الأركان للخرطوم لتحذيرها، ودفع المزيد من التشكيلات لإحكام السيطرة على الحدود.
خامسا: إعلان مسئولية الجيش عن حماية الشعب
تعرض المعتصمين السلميين امام الإتحادية لإعتداءات الإخوان 5 ديسمبر2012.. ميليشياتهم اغتالت واصابت المئات، أحرقت الممتلكات، وهددت المواطنين، فى مارس2013 أضربت العديد من مراكز الشرطة رافضة الإنحياز للإخوان.. الجماعة الإسلامية طرحت ميليشياتها كبديل، ونزلت تمارس مهامها بقرى الصعيد.. قبل نهاية ابريل2013 صدق السيسى على خطة طوارىء يتولى بموجبها الجيش المسئولية الأمنية لحماية الشعب حال تجاوز العنف قدرة الدولة على احتواءه، وفى26 يونيه2013 أصدر مرسىأمراً للجيش بالنزول لتأمين المنشآت الحيوية والمؤسسات الحكومية وردع المتظاهرين، كما توعد الإخوان المستجيبين لدعوة “تمرد” بالتظاهر ضد حكمهم فى30يونية بالعقاب، وبات واضحاً ان صداماً دامياً بين الإخوان والشعب على وشك الوقوع، وان الرئيس يحاول إقحام الجيش فيه.. منح السيسى الرئاسة مهلة لمدة أسبوع لحل الأزمة، لكنها تلقتها باستهتار.. اعقبها بإنذار 48ساعة، ثم تدخل الجيش لتنفيذ خطة الطوارىء، بعد الإتفاق مع الرموز الوطنية والدينية على “خارطة المستقبل”.
***
بعد سقوط الإخوان تبنى السيسى قرار تحمل الدولة للديون المستحقة على الغارمات.. وسداد ديون صغار الفلاحين لبنك الإئتمان الزراعى.. ودراسة اوضاع مسجونى التاكسى الأبيض.. والشباب المحبوس فى قضايا أراضى الدولة اوقروض المشروعات الصغيرة.. مفهوم جديد لدولة “قيم وأخلاق” تجاوزت مرحلة “العدل” الذى يفرض سداد المدين ماعليه من دين، الى مرحلة “الإنصاف” التى يقوم فيها القادرون بالسداد عن المعسرين، اما مشروع بناء 2مليون وحدة سكنية تأوى قرابة 10 مليون مواطن خلال عامين، فهو يعكس الرغبة فى سرعة الإختراق لمشاكل مصر الإجتماعية.
ليس هذا ترويجاً لمرشح كنت آمل ان يستمر فى موقعه كصمام أمن للوطن خلال حرب ضارية ضد الإرهاب، لكنه اجترار للذاكرة بمناسبة استقالتة.