قيصر روسيا أطلق على تركيا وصف «الرجل المريض» منتصف القرن الـ19، إنهارت إمبراطوريتها العثمانية، وهُزِمَت فى الحرب العالمية الأولى، وظلت دولة فاشلة، حتى ألغى أتاتورك الخلافة، فصل الدين عن الدولة، وأعاد هيكلة المؤسسات، فبدأت النهضة.. أحمد داوود اوغلو رئيس حزب العدالة والتنمية، ورئيس الوزراء السابق إستقال «مايو 2016»، لرفضه التحول للنظام الرئاسى، وبعث العثمانية، والعودة لتوظيف الدين فى السياسة، فجميعها مؤشرات لنكوص الدولة التركية الحديثة.
تركيا خذلت حلفائها، وتحولت لعبء عليهم، فانقلبوا عليها.. إكتسبت أهميتها بعد إلتحاقها بالناتو 1952، وتحولها لمركز إستراتيجية الإحتواء الغربى للاتحاد السوفييتى، خلال الحرب الباردة، لكنها إحتلت شمال قبرص برعونة 1974، وهددت بحرب مع اليونان، جارتها بالحلف!!.. بعد تفكك الإتحاد السوفيتى، وإنتهاء الحرب الباردة، كلفتها أمريكا بتنظيم عملية «إعادة الأمل»، لإحتواء الجمهوريات الاشتراكية السابقة فى آسيا الوسطى والقوقاز، بإنشاء حلف يجمع الشعوب المسلمة ذات الثقافة التركية، لكنها فشلت، لتعلقها بحلم الإنضمام للإتحاد الأوروبى، والعجز عن زعزعة إرتباط معظم تلك الجمهوريات بموسكو، رغم ماقدمته من دعم تجاوز 3.5 مليار دولار.. تركيا لم تسمح لحليفها الأمريكى باستخدام أراضيها ضد العراق 2003، إلا عندما هددها بإعتبار ماوقع للأرمن 1915 «إبادة».. تعاونت مع إيران خلال سنوات مواجهتها للغرب، وتمسكت بالإطاحة بالأسد، وسعت للتدخل البرى، وإقامة منطقة عازلة، وتعمدت إسقاط الطائرة الروسية لتورط الناتو فى مغامرة غير محسوبة.. تعترض على الدعم الأمريكى للإكراد، وتخشى إحتمال تأييدها إنشاء دولة كردية.. وتواصل إنتهاكات حزب «العدالة والتنمية» للحريات رغم الإحتجاجات.. يسرت تدفق اللاجئين للضغط على اوروبا، وسعت لتحقيق مكاسب مقابل وقفه (إعفاء الأتراك من تأشيرات دخول أوروبا، مساعدات مالية ستة مليارات يورو، إحياء مباحثات انضمامها للاتحاد الاوروبي)، عندما ردت المانيا بإتهامها بـ«الإبادة الجماعية» للأرمن، عايرها أردوغان بمجازر الـ«هولوكوست» ضد اليهود!!.
تركيا راهنت على إخوان سوريا، وعندما تيقنت من ضعفهم، لجأت للتنظيمات التكفيرية، حجم ماتم كشفه من علاقاتها بتلك التنظيمات سبب الحرج لحليفها الأمريكى، القنصل التركى بالموصل حذر من إجتياح «داعش» للمنطقة قبل أيام من هجومها منتصف 2014، لكن الخارجية أجابته («داعش» ليست خصماً لنا)!!.. الرئيس السابق عبد الله جول وصف «داعش» بأنها «حركة سياسية لا دينية، ولا تشكل تهديدا أيديولوجيا»!!.. نقلت شحنات أسلحة وذخائر لـ«داعش» بإعتبارها «إمدادات إنسانية»، ورجال الأمن الذين أوقفوا إحدى شاحنات «مؤسسة الإغاثة الإنسانية التركية» محملة بالأسلحة والذخيرة يناير 2014، تم فصلهم، وأقيل المدعى العام لمدينة هاتاى، لتقديمه شكوى جنائية ضد وزير الداخلية والمخابرات بعرقلة سير العدالة، ومنعه من التحقيق فى القضية.. سهلت عبور المتطوعين والمقاتلين، وتجاهلت تطوع الأتراك، وإستقبلت جرحاهم للعلاج، وزودت التنظيم فى العراق بالبترول، خصماً من رصيده من بترول الرقة، الذى تصدره لإسرائيل من ميناء جيهان.. المخابرات الروسية فضحت تورط ابن أردوغان، وصهره وزير الطاقة فى تجارة النفط، وتمويل منظمات الإرهاب.. تركيا لم تنضم للتحالف الدولى إلا فى أغسطس 2015، بعد تعرضها لعشرات الهجمات الإرهابية، معهد دراسات حقوق الإنسان بجامعة كولومبيا الأمريكية جمع قائمة أدلة تثبت مساعدتها لـ«داعش» والنصرة، والمخابرات الألمانية كشفت دعمها لأحرار الشام، ورصدت مكتب تقديم الخدمات اللوجيستيكية وتنسيق لوازم السفر والمدفوعات والأسلحة للمتطوعين والمقاتلين بمنطقة فاتح بإستانبول، وآخر بمركز زيتون بورنو لتزوير الوثائق والجوازات، وثالث بغازى عنتاب للتجارة بالبشر «أسرى التنظيم»، وتحولت الريحانية بلواء الأسكندرونة لمركز طبى لعلاج الجرحى ونقل المقاتلين والأسلحة عبر الحدود.
إستيعاب أردوغان للأبعاد الإستراتيجية لما يجرى بالمنطقة إتسم بالقصور، فقد شارك فى تنفيذ مشروعات التقسيم وإسقاط الحدود، دون أن يدرك ان هذه السياسة تتعارض مع طموحات العثمانيون الجدد، وأنها تقتصر على تفتيت دول المنطقة، بما فيها تركيا.. مادلين أولبرايت وزيرة الخارجية الأمريكية أدرجت تركيا ضمن مشروع «الشرق الأوسط الكبير» بداية التسعينات، بتأكيدها «تركيا أكبر من أن تبقى دولة خاصة بالأتراك فقط».. برنارد لويس صاحب مشروع تقسيم المنطقة على أسس عرقية طائفية لغوية، ومستشار إدارة بوش طرح تصور للدولة الكردية التي تقتطع جزءًا من تركيا.. خريطة «الشرق الأوسط الجديد» التى تبناها اللفتنانت كولونيل المتقاعد رالف بيترز فى كتابه «لا تترك المعركة» 2006، ونشرت بمجلة القوات المسلحة الأمريكية بعنوان «حدود الدم: كيف يبدو الشرق الأوسط أفضل حالا»، تضمنت منح ثلث أراضى تركيا للأكراد، الخريطة حصلت على موافقة أكاديمية الحرب الأمريكية، وعرضت بالكلية العسكرية للناتو بروما، مما أثار غضب الجيش التركي، وإحتجاج رئيس أركانه لدى رئيس هيئة الأركان اﻷمريكي.. الأطروحات الحديثة لتقسيم المنطقة عبر مراكز الدراسات الاستراتيجية ومنابر الصحافة الدولية إتفقت على أن تركيا إذا إستعصت على التقسيم سيتم دفعها لمصير الدول الفاشلة، وإقتطاع إقليم كردستان منها، وإردوغان إتهم أمريكا بأنها «تريد أن تجعل من مدينة ديار بكر لؤلؤة مشروع الشرق الأوسط الكبير» بضمها لدولة كردية فيدرالية.
بعد أيام قليلة من فشل محاولة الانقلاب، وصفت الـ«نيويورك تايمز» مؤيدى أردوغان بـ«الخراف الذين سيفعلون كُلّ ما يقوله لهم»، وموقع ويكيليكس أعلن إنه سينشر مئات الألوف من الوثائق والرسائل الإلكترونية لفضح نظامه!!، فتعرض لقرصنة إستهدفت تعطيله، وعندما نجح فى مواجهتها، حجبته الحكومة التركية، بعد أن فضحت باكورة وثائقه مقايضة أردوغان لسوريا بمنح الإخوان حصة فى الحكم، مقابل مساعدته فى القضاء على المعارضة المسلحة، وللبرزانى والعبادى بوقف تقدم «داعش»، مقابل دعمه ضد حزب العمال الكردى، وهو ماإستجاب له الأكراد فانتصروا وحرروا كامل أراضيهم.. أمريكا التى ساعدت فى إحباط إنقلاب الجيش، سربت الوثائق، ضمن خطة تستهدف إضعاف النظام!!، فسواء كان قادة الإنقلاب من القوميين أو أنصار جول، فهى تفضل التعامل مع نظام تعرفه، عن المخاطرة بنظام عسكرى قد يعترض مخططاتها.. بأخطاء أردوغان، وحصار حلفاؤة الذين نفذ صبرهم عليه، دخلت تركيا مرحلة النكوص.. ملامحها: الإستقطاب والإنقسام المجتمعى، تفكيك الجيش، إنتشار الميليشيات، إحتضان عناصر التنظيمات التكفيرية المنسحبة من سوريا والعراق تحت الضغط العسكرى، لدعم النظام، إختلال أمنى يتزامن مع إعلان دولة كردية، تقلص الطفرة الإقتصادية، وتراجع الدور الإقليمى خاصة بالخليج والمشرق، ومحاولة تعويضه بتصدير الفوضى والإرهاب… تركيا تدخل نفق الإخوان المظلم، لتعود «الرجل المريض» من جديد.. كتبت ثلاثة مقالات عن تركيا فى أقل من شهر، لأنها فى أشرس حالاتها، مما يفرض الحذر.. فهل نحن منتبهون!!.