أكبر إشكاليات «سد النهضة» تتمثل فى تباين موقف الدولة منه؛ مبارك هدد بتدميره، المجلس العسكرى تجاهله، وكأنه يقام على الأمازون، الإخوان زايدوا عليه، وشن كبيرهم “حرب أتارى” من غرفة عمليات الرئاسة، السيسى متفهم لأبعاده الإستراتيجية، لكنه حريص على ألا تنعكس إدارته للأزمة سلباً على محاولاته للعودة للأشقاء الأفارقة بعد سنوات غياب، فالتزم التهدئة وطول النفس.. عندما وقّع «إعلان مبادىء سد النهضة» بكل ماينضح به من حسن نوايا، كان مطمئناً الى ان البرلمان القادم يمثل صمام أمن لإسقاطه، إذا لم تتجاوب معه أثيوبيا بشكل إيجابى.. الناخبون إختاروا 70 نائباً من الجنرالات وذوى الخلفية الأمنية، مايعكس تقديرهم لخطورة التهديدات التى نتعرض لها، وعلى رأسها سد النهضة.. خبراء السدود والرى والإستراتيجية لاتنقطع إطلالاتهم، على القارىء والمشاهد والمستمع، لكنهم لم يُعَرِّفوهم بالسد، رغم ان حجم الأزمة ومخاطرها لايمكن إدراكها دون ذلك.
روح العداء طغت على تصميم السد، وانعكست على مواصفاته الفنية، د. مهندس محمد حافظ أستاذ هندسة السدود والسواحل بجامعة يونيتين بماليزيا كشف ان إعلان اثيوبيا انتهائها من نصف أعمال البناء، يتعلق فقط بالسد الخرسانى الذى يحجز 14 مليار م3، فتحاته لا تقع أسفله كباقي سدود العالم، بل أعلاه، عند ارتفاع من 142 الى 145م، ما يعني أنها تأخذ من مياه السطح كفتحات المفيض!!، الا ان هناك سد آخر ركامى لاتزال أعمال بناؤه فى بدايتها، إرتفاعه 50 متر، وطوله 5000 متر، رغم ان سدود التحويط لاتزيد عادة فى العالم عن 300 متر، يمتد فوق الحدود المنخفضة لخزان البحيرة، للتحويط على الإرتفاع الزائد “85 متر”، وحجز 90 مليار م3.. محطة التوليد بقدرة 6000 ميجاوات، لكن ضخامة تكلفة نقل إنتاجها للعاصمة “1200 كم”، يؤكد حرص أثيوبيا على إبعاده لآخر حدودها، تجنباً لتحمل مخاطره!!.
اللجنة الدولية لمراجعة دراسات السد وتعديل مواصفاته، تشكلت فى مايو 2012، كل ماقدمته لها اثيوبيا دراسات تمهيدية، غير متكاملة، لم تتناول الآثار السلبية على دولتى المصب، وتأثيرات انهياره، وخلت من إشارة للسد الركامى وضمانات أمانه، لأن قرار بناؤه اتخذ فى الإجتماع الذى نظمته المخابرات الأمريكية “أغسطس 2013″، بقاعدة دارمشتات بألمانيا لمواجهة ماأسموه بـ”الإنقلاب فى مصر”.. اللجنة خلصت لضرورة إستكمال وتحديث الدراسات، وقدمت توصياتها.. تغيير وتعديل أبعاد وحجم السد والتصميمات الهندسية.. وضع جدول بالتصرفات المائية المقترح تدفقها فى الأعوام المقبلة.. عمل دراسات تكميلية للتأكد من سلامة وزيادة معامل الأمان، ضرورة وجود احتياطات إنشائية تسمح بتوفير الحد الأدنى من احتياجات دولتى المصب حال توقف محطات التوليد، واستكمال دراسات تقييم الآثار البيئية والاجتماعية على دولتى المصب، وأشارت لمقترح استبداله بسدين بحجم 14م3 ينتجان نفس القدرة الكهربائية.. بعد صدور التقرير أبدت اثيوبيا استعدادها للتوصل لمقترحات لمعالجة الخلافات حول التصميم، لإقناع مصر بعدم إعلان تفاصيله، لأن ماتضمنه يمكن ان يشكل ضغطاً دوليا وإقليميا عليها، وابتلعنا الطعم.
منظمة الأنهار الدولية المعنية بحماية الأنهار العابرة للحدود، انتقدت تدنى مستوى الدراسات الأثيوبية، وإعتبرتها “لا تليق بسد بمثل هذا الحجم، ماينذر بكارثة”.. تجربة إثيوبيا في إنشاء السدود تعكس فشل سياساتها المائية، سد “جيبى” المقام على بحيرة “توركانا”، أحدث آثاراً بيئية مدمرة بكينيا، ورغم ذلك تمسكت إثيوبيا بإنشاء لجنة وطنية، لتنفيذ توصيات اللجنة الدولية، فتحفظت مصر، وتوقفت المفاوضات، حتى التقى السيسى وديسالين بمالابو يونية 2014 واتفقا على استئنافها، لكن أثيوبيا تمسكت بعدم تنفيذ توصيات اللجنة بإجراء دراسات إنشائية تتعلق بالتصميم والارتفاع والسعة التخزينية والأمان، ورفضت وقف أعمال البناء، نهاية العام تحركت التربة تحت جسم السد، مااضطر الشركة الإيطالية المنفذة إلى حقنها، ربما تأجيلاً للكارثة!!.
مصر رفضت التوقيع على إتفاقية عنتيبى الإطارية،لتمسكها بحصتها المحددة بالاتفاقيات الدولية (1902و1929و1959)، وبمبدأ إخطارها مسبقاً بالمشروعات المزمع إقامتها بدول أعالي النيل، لكنها وقعت إتفاق إعلان المبادىء مع إثيوبيا والسودان بالخرطوم مارس ٬2015 رغم ماتتضمنه مبادئه العشرة من تنازلات (التعاون، التنمية، عدم التسبب في ضرر ذى شأن، الاستخدام المنصف والمناسب، التعاون في الملء الأول وإدارة السد، بناء الثقة، تبادل المعلومات والبيانات، أمان السد، السيادة ووحدة إقليم الدولة، التسوية السلمية للمنازعات).. الإتفاق أعطى الشرعية للسد، بمواصفاته الإثيوبية، وجرد دولتى المصب من القدرة على تعديلها، إعتمد على الالتزام الذاتى لأطرافه بماتضمنه من مبادىء، وهو معنى أخلاقى، يستند لحسن النوايا، ويخلو من معايير وآليات التنفيذ.. الغى الحصص التاريخية، واعتمد مبدأ الاستخدام المنصف والمناسب، وفق معايير لايسهل تطبيقها، لايحدد إجراء قانونى حال مخالفة مبادئه، ولم يتضمن تحديداً لقواعد اللجوء لآليات التقاضى الدولى، وقصر آليات التسوية للمنازعات على المشاورات، التفاوض، التوفيق، الوساطة، وإحالة الأمر لعناية الرؤساء!!.. جميعها غير ملزمة، ولاتتضمن إشارة للعقوبات او التعويضات حال التسويف والمماطلة.. أعطى لأثيوبيا حق التدخل لضبط قواعد التشغيل، دون ضوابط تتعلق بمصالح الأطراف الأخرى!! لم يتضمن التزام الأطراف بنتائج وتوصيات الدراسات الفنية والاستشارات العالمية، وإكتفى بالإشارة لإحترامها!!.. جامل أثيوبيا بتقدير جهودها فى تنفيذ توصيات لجنة الخبراء!!.. رغم عدم إطلاعها الأطراف الأخرى على أى دراسات تبرر استحقاقها للتقدير!!.
اثيوبيا تروج ان معارضة مصر للسد تعكس رفضها لتنمية المجتمعات الأفريقية، رغم ان مصر خلال التسعينات أجرت دراسة مشتركة مع اثيوبيا والسودان لإقامة مشروع مشترك للطاقة الكهرومائية، واقترحت موقعين الأول قرب الموقع الحالى للسد، والأخر بمنطقة دال شمال السودان، فضلت الموقع الأول، وبدأت مجموعة سكوت ويلسون الفرنسية فى دراسة المشروع بتمويل من البنك الإفريقى، لكن اثيوبيا أوقفته بضغوط خارجية، وبدأت فى إعداد مخططها منفردة عام 2000.. Top of Form
أثيوبيا تروج ان مصر تطالب بحقوق تاريخية تستند لإتفاقيات عقدتها الدول الإستعمارية قبل الإستقلال، رغم ان حقوقنا تستند لما استقر عليه المجتمع الدولى بشأن توارث المعاهدات، والذى قننته قواعد هلسنكي 1966 بشأن الأنهار، واتفاقيتى فيينا 1978، واﻷﻣﻢ اﻟﻤﺘﺤﺪة ١٩٩٧بشأن اﺳﺘﺨﺪام اﻟﻤﺠﺎري اﻟﻤﺎﺋﻴﺔ اﻟﺪوﻟﻴﺔ، وإتفاقية 1929 التى وقعت عليها دول حوض النيل مع مصر وليس مع انجلترا.
المادة 165من الدستور فرضت على الرئاسة عرض ماقامت بتوقيعه من قوانين وإتفاقات فى غياب البرلمان لمناقشتها وإقرارها خلال 15 يوماً من إنعقاده، وأتاحت للمجلس بدائل لإسقاطها، بأثر رجعى، وبكل ماترتب عليها من نتائج، الأول ألا يتم العرض خلال المدة المحددة بالدستور، الثانى ان يتم العرض دون الإقرار، والثالث ان يتم العرض والرفض، إختيار البديل الأنسب يتوقف على تقدير المجلس للأثر المطلوب إحداثه، الأول لايحقق المدلول السياسى المطلوب، والثالث يعكس خشونة، قد تنعكس سلباً على مسار الأزمة، وربما تُستغل للدس بين المجلس والرئاسة، ويبقى الثانى هو الأنسب.. تلك رسالة للبرلمان.. فهل من مجيب؟!