عقب تحرير تكريت أول ابريل 2015، أعلن العراق ان معركتة التالية تحرير الأنبار، القيادة الأمريكية طالبت القيادة العراقية بمراجعة إختيارها، لأنها اميل للبدء بتحرير “الموصل”.. أهل بغداد أعلم بتخومها، والرؤية الإستراتيجية لقادة العراق هى الأصوب، بافتراض حسن النوايا.. محافظة نينوى يقطنها قرابة 5 مليون نسمة، وتحتل 9% من مساحة العراق، أما الأنبار فيقطنها 2 مليون نسمة، وتشغل ثلث مساحة الدولة، إرتفاع معدل الكثافة بنينوى يفرض صعوبات وكلفة فى حرب المدن.. البيئة الحاضنة فى نينوى ساعدت “داعش” على إختيار الموصل كبداية إجتياحها للعراق، أما البيئة الطاردة فى الأنبار فقد أخرت إحتلالها للرمادى قرابة عام.. سيطرة داعش على الأنبار يهدد سدود “حديثة، الرمادى، الفالوجا، الكرامة”، ويمكنها من التحكم فى قطاعى الماء والكهرباء، والقطاع الزراعى بمحيط بغداد، كما يطرح إحتمالات تهديد العاصمة، وإمكانية القفز على كربلاء.. كذلك فإن استكمال سيطرة “داعش” على الأنبار يمكنها من الإستفادة من موقعها الإستراتيجى المتاخم لسوريا والأردن والسعودية، خاصة فيما يتعلق بوصول الدعم لقواتها من تشكيلاتها ومخازنها بسوريا، وتهديد السعودية، والحيولة دون حصار قواتها بالعراق، مايجهض اى محاولة لتحرير الموصل.. هل هناك مبررات خفية للرؤية الإستراتيجية الأمريكية؟! أم ان العراق وقع فى الفخ؟!
القوات الامنية بالأنبار تجاوزت 32 ألف عنصر، إمتلكت ترسانة من الأسلحة والمعدات، لذلك تجاهلت القيادة المركزية طلباتها لمزيد من التعزيزات، وأهملت طلبات التسليح من قادة العشائر للمشاركة فى التصدى لـ”داعش”، لكن القيادة لم تقدر ان الأزمة تتمثل فى الإفتقاد للقيادات الميدانية الكفؤة، والتدريب والتأهيل النفسى، وانعدام إرادة المواجهة.. أداء الشرطة ينبغى خضوعه لتحقيق أمنى يتعلق بالولاء قبل الأداء، قائد شرطة الأنبار اللواء كاظم الفهداوي، أعلن فى 20 ابريل “زوال خطر داعش عن الرمادي، بعد وصول التعزيزات العسكرية المساندة لقطاعاتها الامنية”، لكنها سقطت، وأقيل 20 مايو.. كان مديراً لتدريب المخابرات العسكرية إبان حكم البعث، وقائداً للواء 60 حرس جمهوري، وواحداً من ابرز قيادات فدائيو صدام، أحيل للتقاعد بعد شموله بقانون “اجتثاث” البعث الذي صدر بحق القيادات العسكرية والسياسية بالنظام السابق، بعد حل الجيش 2003 شكل أول خلية للمعارضة المسلحة في الأنبار، وانخرط فى أنشطة الصحوات، قبل تعيينه قائداً لشرطة الأنبار اكتوبر 2014 بطلب من المجلس المحلى للمحافظة!!.. فالح العيساوى نائب رئيس مجلس محافظة الأنبار اكد ان مجموعة من اربعة سيارات مسلحة أسقطت مركز شرطة حى الملعب بقوة 200 شرطى!!، ومجموعة أخرى من عشرة سيارات احتلت مركز شرطة الصقلاوية بقوة 450 شرطى مجهزين بـ67 رشاش متوسط!!، وكشف عن ان 8 آلاف شرطى من قوة المحافظة أعفوا من الدوام مقابل مبالغ مالية، وان بعضهم مُنضم لداعش!!.
بعد خسارتها فى تكريت، إعتبرت داعش معركة الأنبار “المعركة الأخيرة”، لذلك أحكمت سيطرتها على طرق المحافظة، بما فيها الطريق السريع الذى يربط بغداد بالحدود السورية الأردنية، ماقيد تنقلات القوات الأمنية وحال دون وصول الدعم لها، كما فرضت سيطرتها على كافة أقضية ونواحي المحافظة، باستثناء الرمادي وقضائي حديثة وعامرية الفلوجة، وأعادت توزيع قواتها، وشنت هجمات تكتيكية، تجاهلها الإعلام حتى لاتسرق فرحة نصر تكريت.. إحتلال داعش للرمادى يعكس مستوى عال من التدريب، وقدرات تكتيكية راقية، وكفاءة بالغة فى توظيف الإمكانات المحدودة لتحقيق إنجازات استراتيجية.. داعش إعتمدت تكتيك فتح جبهات متعددة ومتتابعة، بمواجهات بشرية محدودة، وإدارة ناجحة لعمليات تكاد تخلو من الإشتباك، ماينبغى إخضاعه لدراسات مدققة، حتى نتمكن من التصدى لجيل بالغ التطور من الإرهاب.. فى الرمادى استُهدِفَت القطاعات الأمنية ومبنى المحافظة وقيادة الشرطة والمجمع الحكومي ومقر قيادة عمليات الانبار والثكنات والمقار العسكرية بـ17سيارة مفخخة يقودها انتحاريون، فى الوقت الذى روجت فيه العناصر المندسة الشائعات، لنشر حالة الذعر والترهيب، مافرض الإنسحاب غير المنظم على العسكريين والمدنيين.. وفى الفالوجة والكرمة فجر اكثر من 30 انتحارياً أنفسهم فى القوات التى انسحبت تاركة أسلحتها الشخصية و400 قطعة سلاح، هى كل تسليح مركز الشرطة.. إستراتيجية الترهيب التى نشرتها داعش تيمنا بـ”حروب المغول” وفرت فرص النجاح لتكتيكاتها، ولن يتسنى مواجهتها دون إعادة تأهيل نفسية شاملة وجادة لكافة القطاعات العسكرية والأمنية بالعراق.
المناورات والضغوط الطائفية أخرت تنفيذ حكومة العبادى لبعض التزاماتها الواردة بوثيقة الإتفاق السياسى، التى شُكِلَت بموجبها سبتمبر 2014، وأهمها تشكيل الحرس الوطنى من متطوعى الحشد الشعبى ومسلحى العشائر والصحوات لتولى حفظ الأمن بمحافظات المواجهة، بإشراف الحكومات المحلية، والقادة العسكريين، أقرته الحكومة 3 فبراير الماضى، وانتهى مجلس النواب من مناقشته 18 مايو، تحت ضغط الموجة الجديدة لتمدد “داعش”.. عمليات تدريب أبناء العشائر السُنية فى الأنبار، إتسمت بالتباطوء حتى ان يوم سقوط الرمادى كان موعداً لتخريج أول دفعة تضم “1180 مقاتل” بقاعدة الحبانية شرق المدينة.. محاولات تبرير الهزيمة برفض العشائر مشاركة ميليشيات الحشد ينافى الحقيقة، فشيوخ عشائر الأنبار المشاركين فى المؤتمر الصحفى للواء قاسم المحمدى قائد عمليات المحافظة بسامراء منتصف يناير الماضى، دعوا المرجعية الدينية بالنجف لإشراك قوات “الحشد” فى محاربة التنظيم بالمحافظة، ثم عقدوا مؤتمراً بقضاء الخالدية شرق الرمادى أواخر ابريل وطالبوا بانضمام “الحشد” للمتطوعين من أبناء المحافظة، وبالفعل توجهت مجموعات منه للرمادى، لكنها انسحبت قبل ثلاثة ايام من سقوطها!!
***
أمريكا سرَّحت الجيش العراقى، فى الوقت الذى دعمت فيه إيران الميليشيات الشيعية المسلحة، لتسيطر فعلياً على محافظات الجنوب، أمريكا أسست ميليشيا “الصحوات” لتكون القوة المقابلة بالمحافظات السنية، لكن المالكى نجح فى تصفيتها عقب الإنسحاب الأمريكى، واشنطن سعت لإحيائها مجدداً، نظمت مؤتمرين لمشايخ عشائر السنة، بالعاصمة الأردنية عمان يولية ونوفمبر 2014، واستقبلت ممثليهم بواشنطن ديسمبر ويناير الماضيين، بهدف تشكيل ميليشيات من 100 الف مقاتل بالمحافظات السنية “الأنبار- صلاح الدين- نينوى”، وتسليحها مباشرة دون المرور ببغداد، وذلك لتحريرها، ثم فرض الأمن بها، كمقدمة للحكم الذاتى، أسوة بالمحافظات الكردية “دهوك- أربيل- السليمانية”، الحكومة العراقية وافقت على تسليح العشائر شريطة إتمامه من خلالها، ماأدى لتباطوء واشنطن فى عمليات التدريب والتسليح.. البنتاجون اشترط الشهر الماضى عدم مشاركة الميليشيات الشيعية فى تحرير المناطق السُنية، متعللة بتجاوزاتها الطائفية ضدهم، لكن الحقيقة انها لم تكن لترغب فى تمدد النفوذ الإيرانى بالعراق عن طريقها.. بعد سقوط الرمادى أعلنت واشنطن قبولها مشاركة “الحشد”، مادام “تحت سيطرة الحكومة”، دون أن توضح كيف خضع للحكومة، ولا مظاهر هذا الخضوع.. تغير الموقف الأمريكى يعكس تسليمها بالمصالح الإيرانية فى المنطقة ضمن “الصفقة الشاملة” التى ستوقع نهاية يونية المقبل؟!
بسقوط الأنبار تواصلت “داعش” مع تشكيلاتها فى سوريا، وسيطرت على قرابة 400 كيلومتر من الحدود مع السعودية، تفجير القطيف 23 الجارى إيذاناً بوصولها.. حال تحريرها بمعرفة قوات الحشد، المدعومة ايرانياً، يكون فيلق القدس التابع للحرس الثورى قد بلغ حدود المملكة.. وزير الدفاع الإيرانى سارع بزيارة بغداد و”كربلاء” خروجاً عن البروتوكول، والمقاتلون الشيعة دخلوا بلدة سنية قرب الحدود السعودية.. تطورات تؤكد أن كل الإحتمالات فى الصراع الدائر بالمنطقة، تؤدى لإستكمال حصار المملكة من الشمال، تخفيفاً للضغط عن حوثيين الجنوب، مايفرض مضاعفة الزخم لسرعة حسم معركة اليمن، ومواجهة تهديدات الحدود الشمالية.
gtaha2007@gmail.com