منذ سنوات والنظام السعودى يحاول حل معادلة التوازنات الداخلية، مرر إصلاحات سياسية (منح كوتة للمرأة “30 مقعد” بالشورى، السماح بترشحها للانتخابات البلديّة، وتعيين نائبة وزير…) لكنها ظلت قاصرة عن تلبية تطلعات الجيل الجديد، الأمير خالد بن فرحان بن عبدالعزيز إنشق عن العائلة، ودعى الأمراء للإنحياذ للتغيير لا للولاء.. تشدد بعض رجال الدعوة دفع الداخلية لإجراء تحريات أدت للتحقيق مع 17 منهم لعدم تضمن خطبهم استنكاراً لهجمات القاعدة، الملك الراحل أرسل خطاب تأنيب لـ”هيئة كبار العلماء” لقصور دورها فى مكافحة التطرف، وفُرِضَت غرامات على وسائل الإعلام لأنها لم تقصر فقط فى التعبئة ضد الإرهاب، بل ساهمت فى تأجيج الرأي العام وتشويه سمعة البلاد، والنتيجة ان 20% ممن أجرى عليهم استطلاع للرأى 2009 عكسوا آراء إيجابية تجاه «القاعدة»، واستطلاع آخر نشر مؤخراً أكد ان قطاع من السعوديين يعتقدون أن «داعش» “تتوافق مع القيم والشريعة الإسلامية”، جميعها إستطلاعات غير رسمية بالطبع.. المعالجات الأمنية فرضت نفسها، “هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر” أضيف لمهامها محاربة الفكر المتطرف ومواجهة مبادئ الإرهاب، وصدرت أحكام ضد عدد من ناشطى “حسم” الذين يطالبون بالنظام الملكى الدستورى، ومنع الاعتقال التعسفي، بخلاف السجن لـ70 متهما بايعوا زعيم القاعدة في اليمن.
على حدود المملكة الموقف بالغ الحساسية، الحوثيون يحكمون اليمن، ويتطلعون لباب المندب، و800 كيلو من الحدود مع العراق تحتلها «داعش»، التى تستهدف مكة والمدينة لإستكمال الخلافة.. ركزت منذ مطلع 2015 على قطاع 70 كيلو، حفرت فيه ثلاثة آبار، هاجمت مخفر “العناز” العراقى عدة مرات، وقتلت 30 جندى، مادعا الباقين للفرار، الشيخ لورنس متعب الهذال، زعيم قبيلة عنزة بالأنبار، وأحد مؤسسى الصحوات، تعهد بنشر أبناء القبيله على الحدود لتأمينها، أغتيل بعدها بعدة أيام.. مركز “سويف” السعودى بعرعر تعرض لهجوم ذهب ضحيته قائد حرس الحدود بالمنطقة، واثنان من رجاله، وترددت أنباء حول تسلل مجموعتين للمدينة، السعودية مدت المنطقة العازلة لـ20 كيلو، وعززتها بسياج أمنى بتقنيات متطورة تنفذه شركة ((EADS الأوروبية، لكن تحصينات الحدود لم تحم دولة عبر التاريخ.
خارجياً تكاد المملكة ان تغيب عن الإقليم منذ قرابة عشر سنوات، اختلفت مع المالكى حول تشكيل حكومة ائتلافية تصون حقوق السُنَّة، فابتعدت، وتبنت الثورة السورية فقطعت علاقاتها بالدولة، واختطفت القاعدة نائب قنصلها فى عدن فغادر السفير صنعاء ولم يعُد، وأيدت ثورة 30 يونية فى مصر، فتدهورت علاقاتها بتركيا وقطر.. غياب الدور السعودى ترك الساحات واسعة امام تمدد النفوذ الإيرانى فى العراق وسوريا ولبنان واليمن، وسمح بتمرير مخطط الفوضى الخلاقة ببعض دول المنطقة، وشجع الغرب للسعى للتوصل لإتفاق تقسيم مصالح مع ايران.. الملك عبدالله بدأ منتصف 2014 الترتيب للعودة للإقليم.. إتصالات مباشرة مع ايران، استئناف للعلاقات مع العراق، تهدئة الموقف مع قطر، والوساطة مع مصر، السيطرة على تدفق الدعم السعودى والمتطوعين للمتطرفين بسوريا، استعادة الدور المصرى بالمنطقة لموازنة الدورين الايرانى والتركى.
إستكمال المهمة بعد وفاة الملك عبدالله، فرض على سلمان إعادة ترتيب مؤسسات الحكم، وتوفير حالة من الرضا العام، وإعادة التوازن بين نفوذ كل من الأسرة الحاكمة والمؤسسة الدينية والقبائل، ورأب صدع السياسات السعودية تجاه الاقليم.. بدأ الملك بحل كل المجالس الاستشارية، وشكل مجلسين فقط ليكونا ركيزتين للسلطة؛ الأول للشؤون السياسية والأمنية برئاسة الأمير محمد بن نايف وليُّ وليِّ العهد النائب الثاني لرئيس مجلس الوزراء، ووزير الداخلية، والثانى للشئون الاقتصادية والتنمية برئاسة محمد بن سلمان وزير الدفاع ورئيس الديوان الملكي والمستشار الخاص لخادم الحرمين الشريفين، وأخرج خالد التويجرى رئيس الديوان، أحد الداعين لليبرالية والحداثة، الداعم لموقع “الشبكة الليبرالية”، الذى يديره رائف البدوي، المتهم بالكفر والزندقة.. التغييرات الوزارية محدودة، لكنها استهدفت تهدئة التيارات الدينية المحافظة؛ إعادة صالح آل الشيخ وزيرا للشئون الإسلاميّة والأوقاف، وهو سليل مؤسس الوهابية محمد بن عبد الوهاب، الذى أعفاه الملك فهد من المنصب، بدلاً من أبا الخيل.. تعيين وليد الصمعانى وزيراً للعدل بدلاً من محمد العيسى، الذى شارك التويجرى فى الإصلاحات المتعلقة بالمرأة، وتعرض لإنتقادات المحافظين.. إعادة تعيين د.سعد الشثري مستشاراً بالديوان الملكي، وهو عضو سابق بهيئة كبار العلماء، أقيل 2009 لمعارضته إنشاء جامعة مختلطة.. تعيين د.عبد الرحمن السند رئيسا لهيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، بدلاً من عبداللطيف آل الشيخ الذى أقال أقطابها المتشددين، وقيد نشاطها بالأسواق والمهرجانات الترفيهيّة.. تعيين د.عزام الدخيل وزيراً للتعليم والتعليم العالى، بعد دمجهما، وهو تكنوقراطي خريج الجامعات الأمريكية والبريطانية.
التغيرات الرئيسية فى السلطة تشير الى ثبات المحاور الرئيسية للسياسة الخارجية السعودية، وإعادة الثقة للعلاقات مع أمريكا.. العاهل السعودى تولى وزارة الدفاع، ورئاسة المخابرات، ومستشاراً لملوك السعودية منذ 1999، وأدار -مع الأمير مقرن- سياسات المملكة إبان تراجع قدرات الملك عبدالله الصحية خلال السنوات الأخيرة، خلافاً لما أوحت به التسريبات، التى استهدفت استبعاده والتلاعب فى ترتيبات الخلافة.. الأمير نايف المسئول عن تبادل معلومات الأنشطة الإرهابية مع امريكا، والذى اجتمع بأوباما لمدة 3 ساعات فبراير 2014، قبيل لقاءه بالملك في الرياض، وعاد ليُكَلَّف بالإشراف على المخابرات السعودية.. محمد بن سلمان صاحب التوجهات الغربية.. خالد الحميدان رئيس المخابرات، نائب مدير المباحث السابق، ومسئول التعاون مع FBI.. اوباما قطع زيارته للهند، وتوجه للرياض بوفد يضم 30 من صناع القرار فى الإدارات الأمريكية، الحالية والسابقة، جمهوريين وديمقراطيين، وأردوغان قطع جولته الأفريقية وتوجه للعزاء، وتميم قطر كان على رأس المشاركين فى الجنازة.. محاولات لإستغلال الموقف فى إستعادة الثقة لعلاقات تحكمها مصالح، ومواجهات للإرهاب، تتزامن مع سعى سعودى للعودة للإقليم، مافرض التجاوب والمراجعة.
أين ملف العلاقات المصرية السعودية من هذا؟!
التعاون السعودى المصرى يعتبر حقيقة إستراتيجية ثابتة لدى القيادة السعودية، سلمان يرتب لزيارة مصر منذ إعتلائه للمنصب، وليس كرد فعل لتسريبات، لاتؤثر فى استراتيجيات دول، ولا مصالح حكومات، القيادة المصرية تتفهم الكياسة السعودية فى التعاطى مع محاولات أوباما واردوغان وتميم لترويج رؤيتهم لدور الإخوان فى الأنظمة السياسية العربية، سلمان تقبل عزاء راشد الغنوشى باعتباره زعيما للحزب الذى يتمتع بثانى كتلة سياسية فى البرلمان، لا كرئيس لإخوان تونس، سعود الفيصل يعنى ماقاله “ليس لنا مشكلة مع الإخوان، مشكلتنا فقط مع من ينتمون للجماعة، وفي رقبتهم بيعة للمرشد”، لأنه أول من يدرك ان بيعة المرشد على السمع والطاعة هى أول شروط العضوية.. وبالتالى فمشكلتهم مع الجماعة مستمرة، ورفعهم من قوائم الجماعات الإرهابية غير وارد، لأن إدراجهم لم يكن مجاملة لمصر، انما انطلق من رؤية وزير الداخلية الراحل الأمير نايف باعتبارهم “أصل البلاء”، ونجله وزير الداخلية الحالى لكونهم “خطراً على المنطقة كلها”.
تحديات الإقليم لاتقتصر على إرهاب داعش، وفوضى الحوثيين، انما تتعداها لمخططات ايرانية أشار علي رضا زاكاني نائب طهران فى البرلمان الإيراني الى انها نجحت فى فرض سيطرة طهران على أربع عواصم عربية؛ بغداد، دمشق، بيروت، صنعاء، فى الوقت الذى يفاوضها الغرب على صفقة “تقسيم المصالح”، وهى تحديات يستحيل على السعودية مواجهتها دون تحالف استراتيجى فعال مع مصر والإمارات والأردن.