كلما انكفأنا على شئوننا الداخلية، كلما نشطت محاولات إختراق أمننا القومى عن طريق دول الجوار، مصر تفصلها عن ليبيا حدوداً سياسية تمتد بطول 1115كيلو متر.. مناطق مفتوحة.. ممرات صحراوية.. يستحيل إحكام تأمينها، لذلك فرضت الحكمة والمصلحة الوطنية على رئاسة الجمهورية منذ مطلع الثمانينات تكليف المخابرات العامة بملفات العلاقة مع ليبيا، أسوة بالسودان واسرائيل، حتى استردتهم الخارجية نهاية حكم مبارك!!
14 فبراير2014 اصدر اللواء خليفة حفتر قائد القوات البرية السابق بيانا بتجميد عمل المؤتمر الوطني والحكومة والإعلان الدستوري، وأعلن خارطة طريق لإدارة مرحلة انتقالية جديدة، رئيس الأركان الليبي أكد أن الجيش يسيطر على الأوضاع، عمر حميدان الناطق باسم المؤتمر الوطني شدد على إنه “لا يوجد أي تحرك عسكري على الأرض”!! حالة غموض وريبة سادت دولة غابت عنها بعثتنا الدبلوماسية بعد ان سحبتها الخارجية على اثر اختطاف عدد من اعضائها قبل نهاية يناير2014.. ماذا يحدث فى ليبيا؟! وماتأثيره على أمننا القومى؟!
ابعاد الموقف الداخلى فى ليبيا
فى المرحلة الإنتقالية الأولى عقب الإطاحة بالقذافي تولي المجلس الوطني الانتقالي السلطة بموجب إعلان دستوري، سلمها فى بداية المرحلة الإنتقالية الثانية يوليو2012 الى مؤتمر وطني عام “منتخب” تسيطر عليه أغلبية من الإخوان والقوى الدينية، قبيل انتهاء ولايته فى 7فبراير2014 أصدر «خريطة طريق» عدلت الإعلان الدستورى على النحو الذى يفرض على «لجنة الستين» -التي يتم انتخابها في20فبراير- استكمال صياغة مشروع الدستور خلال 120 يوماً من بدء جلساتها بداية مارس المقبل، على أن تقدم خلال ستين يوماً من ذلك التاريخ تقريراً عن مدى قدرتها على وضع الدستور في المهلة المحددة من عدمه.. فى حالة نجاحها يواصل المؤتمر الحالي عمله، للإشراف على استفتاء شعبي للمصادقة على الدستور ويدعو إلى انتخابات عامة بموجبه، لتتولى سلطة شرعية غير انتقالية مهمتها بحلول ديسمبر2014، اما فى حالة عجزها عن انجازه خلال المدة المحددة تبدأ مرحلة انتقالية ثالثة ينبغى الا تتجاوز 18 شهراً، يتم خلالها إجراء انتخابات رئاسية وأخرى لإختيار برلمان مؤقت يتولى السلطة التشريعية حتى الإنتهاء من الدستور، التكتل الليبرالى رفض التمديد للمؤتمر، واستقال منه 14 عضواً، ايدتهم مظاهرات شعبية تعبر عن رفض التيار الليبرالى للتمديد، حاول الإسلاميون تنظيم مظاهرات مؤيدة، واستقال خمسة وزراء ينتمون للإخوان من الحكومة مطالبين الإطاحة برئيسها، الخلاف السياسى وصل للمؤسسة العسكرية وأحيل عدد من ضباط الجيش للمدعي العام العسكري.
الحكومة الإنتقالية لاتسيطر فعلياً على معظم أرجاء البلاد، عجزت عن نزع سلاح الجماعات المسلحة التى تتجاوز1700 مجموعة معظمها ينتمى للإخوان والسلفيين و”القاعدة”، يتولى بعضها حفظ الأمن بإيعاز من الحكومة، بينما يقوم البعض الآخر بترويع وخطف وقتل المدنيين والمسؤولين دون عقاب.. بعد انهيار النظام السابق كلفت السلطات الانتقالية المجموعات المسلحة بمراقبة الحدود والسجون والمنشآت الإستراتيجية للبلاد مقابل مرتبات وامتيازات ومنحها الشرعية، على اساس تنفيذ خطة لدمجها فى أجهزة الأمن الرسمية قبل نهاية 2013، لكن هذه الخطة فشلت، تزايدت الاغتيالات بمعدلات كبيرة في السنة الأخيرة وصلت الى قائد الشرطة العسكرية، القضاة يفرون من مقار اقامتهم نتيجة للتهديد بالقتل إذا تابعوا قضايا بعينها، التهجير القسري لعشرات الألوف من السكان وتدمير مساكنهم على أيدي مليشيات تتهمهم بالانحياز للقذافى أثناء معركة خلعه، او لإعتبارات قبلية او عشائرية، رئيس الوزراء ومستشاره ونائب مدير المخابرات تعرضوا للخطف بمعرفة تلك الجماعات.. تأمين الحدود مع مصر يتم بمعرفتهم ولذلك اما انهم يتولون تهريب الأسلحة والذخائر بأنفسهم او يتقاضون اتاوات عليها.. قضية أمن قومى بامتياز!!
مظاهر نفوذ أمريكا والناتو
جيمس ويلسي المدير الأسبق للمخابرات المركزية الأمريكية فى خطابه الشهير عام 2006 أكد ان “الولايات المتحدة ستضغط على مبارك فى مصر، وإذا فرغنا منه يمكننا أن نتصرف بعد ذلك مع ليبيا وسوريا”، وبالفعل سقط نظام مبارك 11فبراير2011، وبعد ستة أيام “17فبراير” بدأ إسقاط ليبيا بتعاون أمريكا والناتو.. وفى مارس2011 بدأت ولا تزال عملية إسقاط سوريا.
زيدان رئيس الحكومة خلال زيارته لواشنطن منتصف مارس2013 وجه الشكر لأوباما وإدارته والشعب الأمريكي على دورهم في دعم الثورة الليبية، والتخلص من القذافي.. حتى بعد ان اعتقلت القوات الخاصة الأمريكية فى 4 اكتوبر2013 أبو أنس الليبي “نزيه الرقيعي” -عضو القاعدة المتهم بتفجير سفارتي الولايات المتحدة في كينيا وتنزانيا 1998- من قلب العاصمة الليبية “طرابلس”، خرج زيدان ليؤكد إن العلاقات الليبية الأمريكية لن تتأثر بتلك العملية، واستمرت عملية تحويل ليبيا الى قاعدة غربية وفقاً للمخطط الموضوع.. 10يونية2013 اتفق زيدان مع ويندى شيرمان مساعدة وزير الخارجية الأمريكية للشؤون السياسية على إيفاد أكثر من 10 آلاف طالب للدراسة بالجامعات الأمريكية وتزويد ليبيا بالمساعدات والمشورة لبناء المؤسسات الديمقراطية.. اوائل نوفمبر2013 بحث مع اليزابيث جونز مساعدة وزير الخارجية التعاون فى مجال الامن وتوفير التدريب المتخصص في مجالات الدفاع والشرطة وإنفاذ القوانين والعدالة الجنائية (محاكم -سجون -قضاة -محققين…) 18نوفمبر2013 أعلنت وزارة الدفاع الأمريكية أنها تستعد لتدريب “5000 إلى 8000 جندي ليبي” في بلغاريا، وأطلق الاتحاد الأوروبي مأمورية لتدريب أطقم المراقبة الليبية للحدود البرية والبحرية والجوية، اواخر نوفمبر2013 أكد مارك فرانسوا وزير شئون القوات المسلحة البريطانى استعداد بريطانيا لتدريب 2000 جندى ليبى مع بداية 2014، اوائل يناير2014 وقعت ليبيا اتفاقية للتعاون العسكرى مع بريطانيا في مجال التدريب والتأهيل وبناء جيش يمتلك المهارة العالية والتقنية الحديثة.. أين مصر من ذلك وهى التى أسست ودربت أجهزة ليبيا السيادية بما فيها المخابرات؟!
انتشار الميليشيات المسلحة
ميليشيات الإخوان والتنظيمات الجهادية تعتبر المرتكز الرئيسى للخطة الغربية فى ليبيا، وتسليحها يمثل هدفاً رئيسياً.. تركيا -التى كان أردوغان اول مسؤول أجنبي يزور طرابلس منتصف سبتمبر 2011 قبل سقوط القذافى بشهر- تقوم بتهريب الأسلحة عبر الموانىء الليبية (ضبط 3 حاويات أسلحة نهاية يناير2013 بميناء بنغازي البحري…) وكذا عبر المطارات (هبوط طائرة تركية بقاعدة معتيقة في طرابلس منتصف يناير2014 محملة بالأسلحة لمليشيات الجهادى عبد الحكيم بلحاج زعيم حزب الوطن ورئيس المجلس العسكري بطرابلس ابان الثورة).
الدول الغربية تحاول يائسة ايجاد توازن بين دعمها للإخوان والجهاديين، وبين السيطرة على انشطة “القاعدة” والجماعات الإرهابية التى استفحلت خاصة فى الجنوب.. أول فبراير2014 كشفت “لوفيجارو” عن تواجد وحدات من القوات الخاصة الأمريكية “دلتا” فى جنوب ليبيا منذ نهاية 2013 معززة بطائرات بدون طيار وغيرها من وسائل الاستطلاع الجوى، النيجر دعت الولايات المتحدة وفرنسا اوائل فبراير2014 للتدخل جنوب ليبيا التى اصبحت مقراً للقاعدة وللمجموعات الارهابية، الأميرال إدوار غييو قائد أركان الجيش الفرنسي أكد إنه يفضل شن عملية دولية لتطهير جنوب ليبيا.
فى 6مارس المقبل يعقد بروما المؤتمر الوزاري الثاني لمناقشة قضايا تأمين الحدود وجمع السلاح والهجرة غير الشرعية وسبل دعم المؤسسات الناشئة وبناء الدولة الليبية، مصر تشارك فيه ضمن دول الجوار الليبى، وهى فرصة لنعرض كل مايتعلق بأنشطة المنظمات الإرهابية فى عمليات تهريب الأسلحة والأفراد عبر الحدود وحشد الدعم الدولى لتحجيمها والسيطرة على انشطتها .بمختلف الوسائل
ابعاد محاولة الإنقلاب الأخيرة
من المثير للدهشة انه مساء 11 فبراير2014 صرح عمر حميدان الناطق الرسمي باسم المؤتمر الوطني العام بأنه “يتم التحضير لانقلاب عسكري في البلاد” وذلك قبل موعده بثلاثة ايام!! الدراسة التى كتبها ديريك هنري فلود المتخصص فى شئون الجماعات المسلحة فى ليبيا بمعهد “جيمس تاون” الأمريكي اكدت ان خليفة حفتر قائد المحاولة الإنقلابية له تاريخ في تلقي الدعم من المخابرات المركزية الامريكية وهو أفضل من ينسق بين امريكا والناتو ومتمردي ليبيا، شارك فى ثورة الفاتح من سبتمبر1969، انشق عن القذافى اثر وقوعه فى الأسر بعد هزيمة قواته في معركة وادي الدوم بتشاد 22مارس1987، وفي 22يونية1988 أسّس “الجبهة الوطنية لإنقاذ ليبيا”، ثم جناحها العسكرى “الجيش الوطني الليبي” من 1000 من العسكريين الأسرى، بعد انقلاب ادريس دبى فى تشاد 1990، وبالتنسيق مع واشنطن، تم ترحيله لزائير على متن مروحيات عسكرية امريكية ومنها لواشنطن، حيث حصل على الجنسية الأمريكية واقام قرابة 24 عاما.
اول بيان يدعو لبدء الثورة فى ليبيا اصدره حفتر فى 16 فبراير2011، وقامت الثورة بالفعل فى اليوم التالى 17 فبراير، عاد الى ليبيا عن طريق مصر، وضغط مستغلاً تأييد 150 ضابط لتولى منصب رئيس اركان الجيش الوطني، لكن الأغلبية ايدت عبدالفتاح يونس، عاود الكرة دون جدوى فى يولية 2011 بعد إغتيال يونس وسط تأكيدات بأن مخابرات “الناتو” تخلصت منه لرفضة سيطرة الحلف على تحركات الثوّار، وبالتالى اكتفى بتولى قيادة القوات البرية، الى ان تم اقالته قبل إعلانه عن محاولته الإنقلابية الأخيرة.
***
منذ الإطاحة بنظام القذافى تعمل الولايات المتحدة والناتو على إعادة ترتيب الأوضاع فى ليبيا لإستخدامها كقاعدة رئيسية لتنفيذ مخططاتها فى مصر والدول العربية والأفريقية، كثافة تواجد “القاعدة” فى الجنوب الليبى اصبح مصدر قلق بالغ للولايات المتحدة وفرنسا وجنوب اوروبا.. منذ سقوط الإخوان فى مصر، وشعبيتهم تتراجع فى ليبيا، خاصة بعد الرفض الشعبى لقرار التمديد للمؤتمر الوطنى، احتمال سقوطهم امر وارد، بل انه المرجح، مما يهدد الأمن الأوروبى مباشرة لما هو متوقع من عمليات انتقامية وحرب أهلية فى بلد منقسم بالفعل، حفتر رجل المخابرات المركزية الأمريكية فى ليبيا، ويتمتع بشعبية داخل الجيش وبين الثوار وعلى مستوى الرأى العام والقيادات السياسية الليبرالية، رغم انه موضع رفض الإخوان والتنظيمات المتطرفة، ومع تهيوء الساحة الليبية سياسياً وشعبياً للتغيير والإطاحة بالإخوان فإن محاولة حفتر المبادرة بذلك استهدفت استمرار السيطرة الأمريكية على ليبيا بأدوات اخرى قد تمكنها من الوصول الى تحقيق اهدافها فى العمل ضد مصر، فشلها لن يؤثر على ثقل تواجدها فى ليبيا وتحكمها فى كافة المؤسسات السيادية.. مايحدث على أراضى هذه الدولة الشقيقة موجه مباشرة لقلب الوطن المصرى الذى ينزف.. فهل مؤسساتنا السيادية ملمة بأبعاده؟!